ربما يبدو هذا المقال في زمننا هذا، زمن "العلماء" من أمثال الزنداني والقرضاوي والبوطي وبن باز، وزمن "الأبطال" من أمثال بن لادن والزرقاوي والصدر، ربما يبدو مع شديد الأسف غريبا بعض الشيء.
زمننا الرديء هذا، زمن المزاودة الذي يطلب فيه الكل من "العلماء" الرد على "الأبطال" الذين بالغوا قليلا في جهادهم الذي امتدت ناره لتحرق الأخضر واليابس بلا عقل ولا تمييز. يطلب منهم الرد عليهم وتبيان "سماحة الإسلام الحقيقي" و"بعده عن التعصب"، وتبيان "خطورة التكفير بلا دليل قطعي".
وقد استجاب "العلماء المعتدلون" من أمثال القرضاوي والعودة والعبيكان نفاقا وكذبا لأرباب نعمتهم من الحكومات وانبروا للرد على "التكفيريين" و"الضالين" ابتداء من المودودي وسيد قطب وانتهاء إلى أبو بصير الطرطوسي وأمثاله.
وامتلأت الفضائيات والجرائد ومواقع الإنترنت بكم هائل من الحوار العقيم والمطولات المملة التي يوردها كل طرف لبيان خطأ وضلال وانحراف الطرف الآخر مع السند الشرعي الصحيح من قرآن وسنة وإجماع وقياس.
في غمرة طوفان العبث هذا الذي يتبارى فيه كل من الطرفين في إثبات أنه هو الممثل الشرعي للإسلام الصحيح دفنت المشكلة الأساسية تحت ركام الآيات والأحاديث والأسناد والاجتهادات بحيث لم يعد يظهر للعين غير الناقدة أن الطرفين هما وجهان لعملة واحدة وأنهما ينطلقان من نفس الأسس ويتشاركان في نفس الأرضية ويتفقان على أمور أكثر بكثير مما يختلفان.
من قال أن "التسامح" هو المطلوب ؟ من قال أن "التكفير" خطأ ؟
هذان السؤالان هما ما يجعل المقال غريبا بعض الشيء، ففي غمرة الحماسة لإثبات تسامح الإسلام (حتى من قبل أناس يعتقدون فعلا وليس نفاقا بهذا التسامح) نسي الناس معنى كلمة التسامح أصلا، التسامح يتم مع شخص أخطأ بحيث نغض النظر عن خطأه ونتسامح معه وليس مع شريك في وطن أصلا !!
العلوي والمسيحي والاسماعيلي والدرزي والملحد هم مواطنون لا رعايا وشركاء في الأرض وأصحاب حق مثل المسلم تماما وليس أقل منه بشعرة واحدة. وهم لا يطلبون مساواتهم من سماحة نفس المسلم وكرم أخلاقه وعظمة شريعته، بل يطلبونها لأنها حق لهم لا شك فيه ولا ريب، حق لهم اكتسبوه بحكم وجودهم فقط رضي المسلم أم لم يرض، قالت شريعته بذلك أم لم تقل، كانت شريعته منفتحة أم لم تكن.
بإمكان المسلم أن يكفر الآخرين كما يشاء، هو وشأنه.
بإمكانه أن يكفرهم إذا ألحدوا علنا أو تركوا الإسلام أو حتى "اتبعوا الطاغوت" لمجرد مطالبتهم بقوانين عقوبات منفصلة عن الشريعة حتى ولو صلوا الخمس صلوات.
بإمكانه أن يستمطر عليهم لعنات الله والملائكة أجمعين ويدعو عليهم بتيتيم الولد وثكل الأمهات كما يشاء وبلا حساب طالما لم يؤثر هذا على حقوقهم الدستورية في وطنهم وأرضهم.
عندما أبحث مجرد بحث (كرجل دولة وليس دين) في تسامح الإسلام وأجند المشايخ لبيان ذلك فأنا أنطلق من خطأ فادح هو أن الإسلام متفوق على غيره ويمتلك الحق في إصدار الأحكام عليهم سواء كانت هذه الأحكام متسامحة أم لا.
عندما أبحث مجرد بحث (أيضا كرجل دولة وليس دين) في مخاطر الشطط في التكفير فأنا أقر ضمنا أن الكافر مجرم تجب معاقبته وليس مواطن حر صاحب رأي. وأكون بذلك قد وقفت مع التكفيري على نفس أرضيته وبين جمهوره ورقصت على أنغامه.
مكان "علماء" الدين ومناقشاتهم هو الجوامع حصرا، حيث بإمكانهم هناك الخطابة كما يشاؤون بين المؤمنين وتبادل الأسانيد والأحاديث بعيدا عن الدولة والحكم.
هذا لا ينفي طبعا وجوب معالجة مشكلة التطرف والتسامح عند المسلمين، لكن هذا بين المسلمين أنفسهم ولا علاقة للدولة به إلا في حدود منع التحريض والعنف والتعدي على الآخرين.
باختصار أنا لا أطلب كأقلية أو كعلماني تفهم المسلم وتسامحه وسعة أفقه وكرمه، بإمكانه رد منته على نفسه، بل أطلب من الدولة والقانون أن يقفا موقفا حازما منه وأن يضعاه عند حده مثله مثل أي مواطن آخر بحيث لا يحصل على امتياز على غيره لمجرد كونه مسلم.
لا يجب أن يحاول الدرزي والعلوي أن يثبتا للسني أنهما مسلمان صالحان مثله كي يحوزا على رضاه.
لا يجب أن يضطر المسيحي إلى حضور مؤتمرات تبويس اللحى والنفاق والتزلف للأغلبية والتغني بالتوافق التام بين الرسالتين.
لا يجب على الشيعي تجنب الخوض في سيرة الصحابة كي يرضى عنه الأغلبية السنية. (أو بالعكس في إيران، حيث الأغلبية شيعية).
لا يجب أن يضطر المفكر العلماني إلى انتقاء ألفاظه كي يدفع عنه سيف التكفير الغوغائي الجاهز كي يشرع في وجهه عند أول كلمة نقد.
كل ما سبق لا يؤدي إلا إلى زيادة عنجهية وغرور صاحب مذهب الأغلبية (السنة في أغلب الأحيان والشيعة في المناطق التي يكونون فيها الأغلبية) وتعزيز إحساسه المغلوط بالتفوق.
قد تبدو هذه الطلبات في زمننا هذا الذي تتبارى فيه الدول في التزلف للإسلاميين والمزاودة عليهم إرضاء للدهماء، قد تبدو غريبة بعض الشيء ومغرقة في التفاؤل والخيال، ولكني أعتقد اعتقادا راسخا أنه لن نرتقي الخطوة الأولى في سلم التطور والرقي ما لم تتحقق، طال الزمن أم قصر.
لقد أضاعت الحكومات العربية التي تسمى "علمانية" في الستينات والسبعينات فرصة ثمينة عندما لم تقف موقفا حاسما من الدين وتفرض علمانية الدولة التامة عندما كان التيار الديني أضعف بكثير وهي أقوى بكثير، واختارت مبدأ المداورة والمداهنة وتجنب مواجهة المشكلة. يضاف هذا بالطبع إلى فساد هذه الحكومات وقصر نظرها واهتمامها بمصالحها الآنية والأنانية.
المخرج الوحيد برأيي هو تبني الحكومات (فهي الجهة الوحيدة التي تملك القوة في مواجهة القوة الشعبية الحالية لرجال الدين) لمنهج إصلاحي أولا وعلماني حقيقي ثانيا لا مهادنة فيه ولا مكان للكلام المعسول تشجع فيه جميع الأقليات على الجهر بمطالبها بالمساواة التامة وتفرض هذه المساواة على الجميع.هذا التبني لمصلحتها أولا وأخيرا بالإضافة لمصلحة الوطن، فقد وصلت الأمور مع الإسلاميين المتطرفين إلى حد اللارجعة وما كان يصلح سابقا لم يعد يصلح الأن.
لقد جربت طريقة المسايرة وجبر الخواطر ووصلت بنا إلى هنا، فهل نكرر أخطاء الماضي نفسها ؟
هل أطلب المستحيل من حكومات فاسدة قمعية يهمها كرسيها أكثر من الوطن ؟ ربما
هل ينطبق علي مثل "يا طالب الدبس من قفا النمس" ؟ ربما أيضا
لكن ربما أيضا يوجد في هذه الحكومات من ينظر ابعد من أنفه ليرى المستقبل غير البعيد ويحاول أن يغير الدرب.
هناك تعليق واحد:
صدقت ياعزيزي فنحن بحاجه الى حكومات تنظر ابعد من انفها للمستقبل ذالك ان تجربة السادات وتقربه من للاخوان المسلمين مثال واضح وشديد الوضوح وكيف ان هؤلاء الاسلامين هم الذين انقلبوا عليه لا بل قتلوه شر قتله فهل يتعض حكامنا ويبتعدوا عن اصحاب العمائب لصالح التقرب لاصحاب العلم والعلما نين واللبرالين وعن طريق هذا الحلف الجديد نشكل دولة القانون القادر على حماية الدوله والشعب معا
فهل هم مستمعون لمقولتك نرجوا ذالك
اخوك في العلمانيه واللبراليه
احمد الجعافرة
إرسال تعليق