28‏/9‏/2015

هل أنت طائفي؟


من المسلي للغاية سماع عبارة" "أنا لست طائفياً، ولكن ....."، ثم يتبعها قائل العبارة فوراً بكلام تقطر منه الطائفية، ولعل الترجمة الأفضل لهذه العبارة هي: أنا طائفي، ولكني أخجل من للك، وفي نفس الوقت لا أستطيع كتمان هذه الطائفية في قلبي، لذلك سأبدأ بالنفي عل من يسمعني يصدق أو يعذرني.

ولا بد هنا من القول بأن الطائفية لا يمكن اختزالها بمجرد نعم أم لا، هذا طائفي وذاك ليس كذلك، فالطائفية طيف واسع للغاية يبدأ من الاعتدال الشديد مثل تجنب التزاوج مع طائفة أخرى وتنتهي عند مخبولي داعش وأشباههم ونظرائهم من بقية الطوائف، مروراً بدرجات عديدة منها تجنب علاقات العمل ثم الجوار ثم علاقات الصداقة انتقالاً إلى علاقات المعرفة العابرة ومنها إلى التعريض الصريح بمعتقدات الغير والمجاهرة بعدائهم ووجوب التمييز ضدهم انتهاء بأقصى درجات التطرف العنيف. وأغلب الناس طبعاً تقع على نقطة ما في الوسط.

وليس من الضروري أن يعي المرء أنه طائفي حتى يكون كذلك، فالطائفية مع الأسف متجذرة في مجتمعاتنا إلى درجة أن الخطاب الطائفي (والعنصري أيضاً مع الأسف) لدينا يمر بدون ملاحظة أو حتى إرادة واعية.

ولا أوجه هذ المقال طبعاً إلى من يجاهر، بل يفتخر أيضاً، بطائفيته، فبالنسبة لهؤلاء الطائفية هي منهج حياة وعقيدة محترمة ومجال للمباهاة والمزاودة على الآخرين، أذكر هنا بعض بالتخصيص بعض الثوار السوريين الميامين الذين أثروا اللغة العربية بكلمة جديدة هي "التائفية"، وهي مشتقة طبعاً من الأصل العربي ويستخدمونها كما يبدو في السخرية من المخنثين وأشباه الرجال من أمثالي الذين يرون بأن الطائفية شر وخطأ ولا يمكن أن تبنى اعتماداً عليها أوطاناً تستحق الحياة فيها.

وبالرغم من أن الطائفية منبثقة بالطبع من لإيمان الديني، إلا أنهما ليسا شيئاً واحداً، فكما أنه ليس بالضرورة أن يكون كل أبيض البشرة عنصرياً ضد السود، كذلك ليس من الضروري أن يكون كل مؤمن طائفياً تجاه بقية الأديان، ولدي في حياتي الخاصة أمثلة كثيرة لحسن الحظ عن مؤمنين عن قناعة ومع ذلك لا طائفيين بالكامل أو يقعون على درجة منخفضة جداً في سلم الطائفية.

ومن نافل القول أن الطائفية ليست حكراً على الإسلام قطعاً. فهي متجذرة عميقاً في نفوس مواطنينا بغض النظر عن الديانة، ولكن هذا لا ينفي مع الأسف الأمر الواضح، وهو أن أكثر تجلياتها قبحاً وتطرفاً وعنفاً بلا منازع محصورة في بعض المسلمين، ولكن هذا باعتقادي لا يرجع إلى الإسلام بقدر ما يرجع إلى كون المسلمين هم الأغلبية العددية التي تستطيع المجاهرة بطائفيتها وممارستها بأمان دون الخوف من عواقب ذلك، بعكس بقية الطوائف التي تتبنى العلمانية كضرورة ناتجة عن ضعفها لا عن قناعة بها.

بقي أن أذكر هنا العلامات الدالة على الطائفية، بدون ترتيب معين، مع شيء من التفصيل:

- عندما تشعر أن تقبلك للطوائف الأخرى في بلادك، وحتى قبولك بالمساواة معهم، هو فضل ومنة يجب أن يشكروك عليها.
المساواة وحقوق الإنسان لا تبع من عقيدة معينة ولا يجب أن يبرر أصلاً الاعتراف بها بأنها تتوافق مع نصوص هذه العقيدة أو تلك، حقوق الإنسان نابعة فقط من كونه إنسان، نقطة انتهى. وليست بكل تأكيد منة أو فضل من فئة على أخرى تهبها أو تمنعها.

- عندما تطالب بحكم وشريعة طائفة الأكثرية في بلادك وتطالب بالمساواة لك في البلاد الأخرى.
من أكثر علامات النفاق بشاعة، ومع الأسف منتشرة بشكل هائل.

- عندما تطالب الناس بألا يأخذونك بجريرة المتطرفين من طائفتك بينما لا تجد غضاضة في تصنيف الآخرين حسب تصرفات أسوأهم.
ووجهها الأخر طبعاً، وهو عندما تعذر جرائم طائفتك وتبررها بكونها أخطاء فردية أو ردود فعل، ولا تجد حرجاً في تعميم جرائم أفراد أو جماعات تنتمي إلى أي طائفة أخرى على جميع المنتمين إليها.

- عندما تفسر كلمات "أقلية" و"أغلبية" في نقاش سياسي على أنها تعني ديناً أو طائفة عوضاً عن اتجاه سياسي أو اقتصادي.
قليل مما يحز في القلب أكثر من كون الدول العربية القليلة التي فيها برلمانات منتخبة يتوزع نوابها على الطوائف عوضاً عن الأحزاب السياسية والاتجاهات الاقتصادية. بئس الديمقراطية ديمقراطية الطوائف.

- عندما تحب صدام حسين لنفس الأسباب التي تكره حافظ الأسد لأجلها أو بالعكس.
وأنا لا أحاكم هنا أفعال أيهما ولا أقارن بينهما لأعرف من الأفضل، لكن قليل ما هو أبشع من نفاق السوريين والعراقيين الذين يكرهون أحد الرجلين فقط لكونه ينتمي لطائفة معينة ويحبون الآخر لأنه ينتمي للأخرى.

- عندما تعتقد أنه يجب تدريس ونشر دينك ومذهبك (والأديان والمذاهب التي ترضى عنها) فقط في المدارس ووسائل الإعلام الحكومية. (مع التنويه هنا باعتقادي الشخصي بضرورة عدم نشر وتدريس أي دين على الإطلاق في مدارس ووسائل إعلام الدولة).
ثم تزيد الأمر سوءاً بتبرير ذلك بالرغبة في عدم إثارة البلبلة والفتن.


- عندما ترى أنه يجب احترام شعائرك الدينية فقط دون غيرها وتجرح مشاعرك عند عدم حصول ذلك.
لا بد لي من القول أن قضية مشاعر الطائفيين المرهفة تزعجني للغاية، فالطائفي لا يكتفي باحترامه الشخصي لشعائره ومعتقداته، بل يعتقد أن على غير المؤمنين بها احترامها كذلك تحت طائلة ردود فعل تتراوح بين النظرات العابسة والتعليقات المهينة، وانتهاء بالمظاهرات الصاخبة والأعمال العنيفة. ومن البديهي أن هذا الاحترام من طرف واحد فقط، لأن احترام جميع المعتقدات أمر مستحيل.

- عندما يثور حسك الإنساني المرهف وتتباكى على الضحايا المدنيين من طائفتك فقط.
هذه القضية من إفرازات الحرب السورية البشعة، حيث يتحفنا الطائفيون الذين يتسولون عطف "المجتمع الدولي" باستمرار بصور ضحايا الأطفال والنساء من طائفتهم حصراً، بالصدفة المحضة طبعاً !

- عندما تعتقد أن السبيل الوحيد لحل مشكلة الطوائف المختلفة يكمن في "إقناعها"، بخطأ معتقداتها.
سمعتها ورأيتها أكثر من مرة مع الأسف، ومن ناس يمكن حمل كلامهم على محمل النية الحسنة أيضاً.

في النهاية أحب أن أنوه أنني من الناس التي تعتقد أن مسألة الطائفية، التي لا يفوقها أهمية إلا مسألة لانفجار السكاني، قد تم تجاهلها تماماً حتى الآن (مع مسألة الانفجار السكاني أيضاً لزيادة الأـمر سوءاً).
حيث عالجتها السلطة في سوريا بالعبارات المنمقة مثل "اللحمة الوطنية" و"الفسيفساء السورية" و"التعايش المشترك"، وذلك بطريقة خياطة الجرح فوق القيح دون تنظيفه، واستمرت في فرض السلم الأهلي اعتماداً على قوة القمع فقط حتى انفجر الأمر بأكمله في وجوهنا جميعاً الآن.

وما لم يفتح حوار جدي حول هذه المسألة سيكون أي حل يتم التوصل إليه مجرد هدنة أخرى في حرب تبدو بلا نهاية.

16‏/7‏/2015

مأساة اسمها سوريا

مرت الآن سبع سنوات على كتابتي لمقال لعبة الأمم:


حاولت فيه وقتها الإدلاء برأيي في الهوية الوطنية للسوريين وضرورة تقويتها للوصول إلى بلد ينبع استقراره من قناعة أبناؤه فيه وليس من قوة الحكم العسكري. لا أقول ذلك لأتفاخر بكوني الناصح الأمين الذي لم يستمع أحد لكلامه، أو كونى المتنبئ الذي كشفت عنه الحجب، فأنا أعي تماماً مدى ضعف تأثيري وقلة عدد قرائي، ولي نصيبي من التنبؤات الفاشلة مثل غيري. والحق يقال أنني أتمنى من كل قلبي لو أن مخاوفي التي عبرت عنها وقتها لم تتحقق وتبين فشلي في قراءة الأحداث.

ولكن مع الأسف لحقت سوريا بالعراق في 2011، وتجاوز ما حصل بكثير في كارثيته أكثر توقعاتي تشاؤماً، ودخلت سوريا في نفق لا أحد يعرف إن كانت ستخرج منه وبأي شكل سيكون هذا الخروج لو حصل.

ما سأكتبه الآن، وبعد مرور أكثر من أربعة أعوام على بداية الحرب، هو قراءتي للأسباب التي أدت بنا إلى الوضع الحالي، مع قناعتي المسبقة بالمخاطر الفكرية الشديدة المرافقة لقراءة التاريخ بأثر رجعي واستنتاج أسباب الأحداث، كانت حججي ستبدو أكثر إقناعاً بما لا يقاس لو كنت كتبت هذه الكلمات قبل اندلاع الحرب. ولكني سأقدم برغم ذلك.

باعتقادي أن ما حدث في سوريا يرجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية، يمكنني اختصارها كالتالي: ضعف الهوية الوطنية، الفساد الداخلي، ثم النهج الوطني للدولة. وقناعتي هي أن اجتماع هذه الأسباب معاً هو ما أـنتج المأساة التي نعيشها الآن، حيث كان يمكن أن نتجنب ما حصل لو غاب أحدها، ولكني أعتبر ثالث هذه الأسباب أهمها، وسأحاول بيان الأسباب التي قادتني إلى هذا الاعتقاد.

السبب الأول - ضعف الهوية الوطنية:

أعتقد أـني أوضحت رأيي في موضوع صراع الهوية في مقال لعبة الأمم، ولا داع لتكرار ما كتبته هنا أيضاً، وقد بين الواقع مع شديد الأسف أن الهوية السورية (وأقصد سورية بحدود سوريا الحالية والهوية السورية الأعم بل والهوية العربية أيضاً) لم تستطع مقاومة المد الطاغي للهوية الإسلامية السنية التي عززتها وأثارتها بل وهيجتها حملة تحريض طائفي هائلة استعملت إمكانيات مالية ضخمة وكل وسائل التكنولوجيا الحديثة في جهد منظم لتحويل ما كان يفترض أن يكون صراع بين شعب مقموع ونظام فاسد إلى صراع بين أغلبية سنية ومجموعة أقليات.

وبكل تأكيد أدى التحريض المستمر والتركيز الكامل على الهوية السنية للطرف الأول إلى ظهور المكون الطائفي (الكامن دوماً) لدى الأطراف الأخرى، وبعد ذلك أدى تدخل الجهاديون السنة القادمون من كل أصقاع الأرض إلى قدوم ميليشيات وأطراف شيعية من أنحاء شتى ليصبح الصراع ديني وطائفي بشكل شبه كامل، على الأقل من طرف المعارضة، حيث يمكنني تجاهل الجانب الوطني فيها كونه بلا تأثير يذكر في مجريات الأحداث على الأرض.

ما حصل في السنوات الأخيرة زاد من ضعف الهوية الوطنية بشكل كبير، وهي التي لم تكن قوية بالشكل الكافي أصلاً، لا يبقى لي سوى الأمل بأن الزمن وانحسار المد الديني القادم سيتكفل بترميم ما تضرر.


السبب الثاني - الفساد وسوء الإدارة الداخلي:

دعنا نسمي الأمور بمسمياتها، سوريا ليست جمهورية إلا بالاسم فقط، والفساد فيها ليس حالات فردية أو حتى جزر متفرقة من الفساد ضمن بنية الدولة، الفساد في سوريا منهجي ومبرمج ومخطط له لشراء الولاء والأتباع وتثبيت السلطة المؤبدة والمطلقة.

وبرأيي أن بنية السلطة السورية الفاسدة عصية على الإصلاح، لأن الإصلاح إذا حصل ستكون أول نتائجه انفراط هرمية هذه السلطة التي سيفقد مؤيدوها الحافز لدعمها في حال مست عملية مكافحة الفساد مصالحهم.

يشمل الفساد في سوريا هرم السلطة من أدناه إلى أعلاه عمودياً وعبر كل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية أفقياً، من الموظف الصغير المسؤول عن تسيير معاملة ما وصف الضابط المسؤول عن إطعام سرية جنود إلى رؤساء الوزراء وكبار ضباط الجيش.

وفي السنوات الأخيرة قبل الحرب، ومع تقدم من انتزع السلطة في الستينات والسبعينات في السن وتقاعدهم، برزت طبقة أولادهم، الطبقة التي آلت إليها السلطة والثروة على طبق من ذهب دون أن تحارب من أجلهما، الطبقة التي اعتادت منذ الصغر تملق الناس لها وتذللهم أمامها، ولم تعرف مثل آباءها عيش وشعور الناس العاديين. ولربما بلغ الغباء والغرور ببعضهم إلى درجة تصديق حب الناس لهم وبأنهم عبقريات اقتصادية وصناعية فذة لم يأت الزمان بمثلها.

تخلى هؤلاء الأولاد عن التجار الذين استعملهم آباءهم كواجهات يسترون فسادهم خلفها، وفضلوا، معتمدين على ثقة (في غير محلها كما تبين لاحقاً) باستمرار الوضع كما هو عليه إلى الأبد، فضلوا الظهور كقادة الاقتصاد والصناعة والتجارة بأسمائهم الصريحة، وأصبحوا نجوم مجتمع يطلون بوجوههم الصبوحة من شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد والمجلات ليتحفوننا بآرائهم السديدة عن أمثل الطرق في دفع الاقتصاد السوري إلى الأمام.

ولا أريد إملال القارئ في سرد الشركات والمعامل والفنادق والمشاريع والمزارع التي لا حصر لها والتي كان الفضل في نجاحها يرجع فقط إلى عبقرية مليونيرات من أبناء ضباط وقيادات ثورة ادعت قبل عقود قليلة فقط أنها قامت كي تبني الاشتراكية وتلغي استغلال الطبقات الثرية للفقراء. يكفي القول أنه قد ساهمت هذه الطبقة بشكل لا تستهان به في مفاقمة حالة النقمة الشعبية.

أما من ناحية سوء الإدارة فالحديث يطول بشكل يجعل من غير العملي الدخول في تفاصيله هنا، ولعلي لا أبالغ إن قلت أنه بالإمكان كتابة مجلدات في هذا الموضوع. ولكن برأيي أن الكارثة الأولى التي تحمل السلطة القسط الأكبر من المسؤولية عنها هي تقصيرها الكبير في التصدي لظاهرتي الانفجار السكاني المخيف الذي دمر موارد وطبيعة سوريا بشكل شبه كامل أولاً، والتعصب الديني الذي اجتاح المجتمع السوري ثانياً، أسهمت الظاهرتان بشكل كبير في إشعال الأزمة الحالية واستمرارها وذلك برفدها بمعين لا ينضب من الشباب الفقير والجاهل والغاضب لانسداد الأفق في وجهه.

 فضلت السلطة (بكم هائل من قصر النظر) عدم الاقتراب من كلا الموضوعين كونهما يمسان تابوهات المجتمع، واختارت عدم الاقتراب من عش الدبابير واثارة مواضيع شائكة لم تر الفائدة من إثارتها طالما لم تمس ما يهمها بالدرجة الأولى: ديمومة بقاء السلطة في يدها.

الأمر طبعاً أعقد من أن يختصر ببضعة أسطر في مقال، فكلا ظاهرتي المد الديني والانفجار السكاني لا تقتصران على سوريا وليس من السهل على الإطلاق التصدي لهما، ولكني أعتقد أن السلطة السورية في أعقاب انتصارها على الاخوان وقتها كانت من القوة بحيث تستطيع فتح هذه الملفات الصعبة ومواجهتها، ومع شديد الأسف تخاذلت واختارت العكس، بل لعل الأمر أسوأ من ذلك، لعلها لم تكن تعي خطورتهما على المدى المتوسط والبعيد.


السبب الثالث - النهج الوطني للسلطة:

كل ما كتبته في مقال لعبة الأمم والفقرات السابقة في هذا المقال يشكل البنية التحتية والبيئة الحاضنة التي أوجدت دولة في حالة غير مستقرة يمسكها ويمنعها من التفتت قوة القمع وسلطة الجيش بشكل رئيسي، وتماماً كما كنت أخشى، عندما ضعفت قبضة السلطة بدأت البلاد بالتحلل إلى مكوناتها وولاءاتها ما قبل الوطنية، ولكن كل ما سبق ربما ساهم في سرعة انفلات الأمور وزاد من حدة الصراعات والانقسامات الحاصلة، لكن أي منه لم يكن السبب المباشر لهذه الحرب. سأحاول التفصيل:

إذا بدأنا بضعف الهوية الوطنية، فهو ليس بحالة تنفرد فيها سوريا بأي شكل من الأشكال، فعلى الأقل تشاركها فيها لبنان والعراق والسعودية واليمن وليبيا والجزائر والمغرب والسودان والصومال، وهذا لا يعني أن بقية الدول العربية مستقرة وذات هوية ناضجة، كلنا سمع عن مشاكل مصر في سيناء والمشاكل الطائفية في البحرين والكويت، وصراعات العشائر البدوية مع الفلسطينيين في الأردن وغيرها، فمن ناحية الهوية الوطنية، لا يوجد كبير فرق بين سوريا المضطربة والسعودية "المستقرة".

وإذا انتقلنا إلى الفساد والديكتاتورية، فمن نافل القول أنهما في سوريا - على فظاعتهما – لا يختلفان كثيراً عن وضعهما في بقية الدول العربية "المستقرة"، ولا داع هنا لإجهاد النفس في سرد الأمثلة.

والشيء نفسه ينطبق على سوء الإدارة وتجنب معالجة المشاكل الكبرى، لعلي أستطيع تكرار ما كتبته عن الوضع في سوريا وتطبيقه كلياً أو جزئياً على أي دولة عربية أخرى بتعديلات طفيفة في الأسماء والتواريخ.

يبقى السؤال الكبير هنا، لماذا انفجر الوضع في سوريا وبعض الدول الأخرى بينما لم يحصل ما يستحق الذكر في الكثير من الدول العربية التي يشبه الوضع فيها تماماً سوريا؟

لماذا سارع "أصدقاء سوريا" إلى دعم ثورة الشعب السوري المظلوم إعلامياً ومالياً وسياساً وتسليحياً بينما أداروا ظهرهم جميعاً لدبابات الجيش السعودي وهي تسحق ثورة الشعب البحريني الذي لا يقل مظلومية عن الشعب السوري؟

لماذا لم تستثر حمية أحد عمليات القتل المنهجي التي نفذها الجيش المصري بحق متظاهري الأخوان المسلمين السلميين وبالمئات وبلا تردد بينما قامت الدنيا ولم تقعد على حوادث أقل منها بكثير اتهم فيها النظام السوري؟

لماذا لا يوجد "الائتلاف الوطني البحريني" و"الجيش الحر العماني" و"منظومة أصدقاء مصر"، ولم يفرض الاتحاد الأوربي عقوبات على السعودية ولم تطرد السودان من جامعة الدول العربية ولم يطالب أحد بفرض مناطق حظر طيران وممرات إنسانية في اليمن؟

أعتقد أنه يمكن الإجابة على كل الأسئلة السابقة بكلمتين: هضبة الجولان.

قبل قرابة خمسة عقود من الزمن، وفي عالم مختلف تماماً عن عالم عام 2011، اندفعت مجموعة من الضباط الشباب المؤدلجين، والذين لم يمض على استيلائهم على السلطة إلا أربعة أعوام، وفي جو عربي ثوري ومراهقة فكرية مؤسفة، اندفعوا في مزاودات خرقاء في الوطنية مع خصمهم اللدود جمال عبد الناصر، معطين الفرصة لإسرائيل التي فشلوا تماماً في تقدير قوتها أولاً وضعفهم ثانياً كي تحتل جزءاً من التراب السوري مع الضفة الغربية وصحراء سيناء. كان أحد هؤلاء الضباط الشباب وزيراً للدفاع واسمه حافظ الأسد.

بعد ذلك بثلاث سنوات، أزاح الأسد بقية الضباط وانفرد بالسلطة حتى وفاته عام 2000 وتسلم ابنه السلطة بعدها مستمراً على نفس الخطوط العامة لسياسة والده داخلياُ وخارجياً، مما يمكن اعتبار السلطة واحدة في العهدين.

حاولت السلطة كل ما في وسعها في العقود التالية تصحيح ذلك الخطأ الكبير واسترجاع الجولان، لعلنا لن نعرف أبداً إن كانت هذه المحاولات الدؤوبة والمكلفة ناتجة عن قناعة فكرية بقدسية التراب الوطني أو عن شعور بالمسؤولية الشخصية عن ضياع الجولان، في كلا الحالين النتيجة واحدة.

حاولت السلطة أولاً استرجاع الجولان عسكرياً بشكل مباشر في عام 1973، وبعد تغير الظروف وخروج مصر من حلبة المواجهة اتجهت إلى المواجهة غير المباشرة مع إسرائيل في لبنان مما نتج عنه حرب عام 1982 وإفشال اتفاق 17 أيار عام 1984.

وبعد بدء ضعف الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينات وانهياره تماماً في بداية التسعينات ومعه الحركات اليسارية عالمياً، وبالتالي بروز الولايات المتحدة كقطب أوحد في العالم، بات من الواضح للقيادة السورية أن استرجاع الجولان عبر الصدام المسلح مع إسرائيل أصبح خارج نطاق البحث، وباتت استراتيجيتها استرجاع الجولان عبر مزيج من التفاوض مع إسرائيل (تجسد بمقولة "السلام خيار سوريا الاستراتيجي")، وإبقاء ما يمكن من الضغط عليها كي يكون لديها حافز لإعطاء أي قدر من التنازلات ضمن الإمكانيات المحدودة المتاحة نظراً لضعف سوريا العسكري والتقني والاقتصادي، وهكذا تحالفت سورياً مع كل جهة وحركة معادية لإسرائيل مهما كانت تختلف مع هذه الجهة في الإيديولوجيا والأهداف كإيران وحزب الله كجهات دينية تناقض أهدافهما المحافظة الدينية التوجهات البراغماتية والعلمانية للسلطة في سوريا، بل وتحالفت مع الجهاد الإسلامي برغم سلفيته ووصلت حتى إلى التحالف مع الإخوان المسلمين ألد أعداءها ممثلين بفرعهم الفلسطيني حماس.

باختصار لم تترك سوريا فرصة تستطيع فيها إزعاج إسرائيل إلا واغتنمتها، كانت هناك بعض النجاحات كتحرير جنوب لبنان، ولكن هوة فرق القوة لم تردم بما يكفي كي يقنع إسرائيل أن ما ستحققه من السلام مع سوريا وإرجاع الجولان سيفوق الفائدة الحاصلة عليها فعلاً بالاستيلاء عليه. ما نتج عن هذه السياسة عملياً هو إدامة حالة العداء مع إسرائيل في الوقت الذي تزداد فيه هذه الأخيرة قوة ونفوذاً أولاً، وانحيازاً كبيراً إلى اليمين الديني والقومي المتطرف ثانياً. وليس المرء بحاجة لأن يكون متبحراً في دهاليز السياسة الدولية وخفاياها ليعرف أن عداوة إسرائيل في الشرق الأوسط تعني حتماً ومباشرة عداوة الولايات المتحدة، وأن عداوة الولايات المتحدة سينتج عنها بشكل شبه مؤكد عداوة المحميات الأمريكية في الخليج العربي التي تتمتع بهامش من حرية القرار والمناورة يقترب من الصفر إذا تعلق الأمر بإرادة السيد الأمريكي الذي يتمتع بدوره بهامش من حرية الحركة يقارب الصفر إذا تعلق الأمر بالإرادة الإسرائيلية في سياساته الشرق أوسطية.

وازدادت عدائية أمريكا بشكل كبير بعد وصول بوش الابن للرئاسة وأحداث 11 سبتمبر، وأوضحت بعدة أشكال أن هدفها الآتي بعد صدام حسين هو النظام السوري، مما دفع هذا الأخير إلى التحالف حتى مع ألد أعداءه الجهاديين وتسهيل حركتهم إلى العراق لإفشال المشروع الأمريكي قبل أن يصل الدور إليه، ثم ظهرت قضية الحريري محكمته الدولية وانسحب الجيش السوري من لبنان وبدأت تتصاعد حدة العداء الخليجي للسياسة السورية باضطراد، وبدأ بعض من أحس مبكراً باللعبة من أركان النظام بقلب تحالفاته والانشقاق، وصولاً إلى الضربة النهائية عندما سنحت الفرصة عند بداية ما تمت تسميته "الربيع العربي" المشؤوم.

وهكذا واجهت السلطة في سوريا جبهة في غاية القوة من الأعداء جمعهم عليها عداء إسرائيل بشكل رئيسي، جابهتهم بجبهة داخلية هزيلة نتج هزالها بشكل رئيسي عن سياساتها الداخلية وآليات الحكم فيها، والآن بعد مرور أعوام على بدء الحرب نرى النتائج المأساوية لامتزاج الوطنية المقاومة مع الفساد والإهمال والتخلف.

وماذا عن العامل الشعبي وانتفاضة الشعب المضطهد المظلوم؟ ألم يكن لها دور؟ ألم يخرج عشرات الألوف (عشرات الملايين حسب إعلام المعارضة) من الناس تطالب بالإصلاح الذي تأخر كثيراً؟

نعم خرجوا (وخرج غيرهم في دول أخرى)، ونعم كانت مطالبهم في البداية محقة باستثناء الجانب الطائفي منها (كما كانت مطالب غيرهم محقة)، ونعم النظام ديكتاتوري وفاسد (مثل كل الأنظمة العربية بلا استثناء)، ولكن كل هذا الحراك كان سينتهي خلال بضعة أسابيع على الأكثر كما انتهى في البحرين ومصر أمام قوة السلطة لولا ركوب جبهة أعداء سوريا عربة الثورة وتحويلها إلى المسخ الذي نراه حالياً.

إلى أين الآن؟ أكرر أني لا أعرف ولا أعتقد أن أحداً يعرف. يبقى فقط الأمل.