كيف استطاع الفكر الديني الصمود عبر آلاف السنين، ليس الصمود فقط، بل الازدهار والانتشار بين الناس بالرغم من كثرة المفكرين المتنورين الذين حاولوا التصدي له ؟
كيف أثبت قدرته على البقاء في وجه تطور العلم ؟
كيف عاد ليطل برأسه من جديد في كل مكان غاب فيه لفترة ؟
سأحاول في هذا المقال تسليط الضوء على العوامل التي جعلت الفكر الديني من أكثر الأنماط الفكرية قوة واستعصاء على المحاربة، وقبل أن أبدأ لا بد من الإشارة إلى أنه في الكثير من الأحيان تكون قوة فكرة معينة واستعصاءها على الإزالة من ذهن الناس لا علاقة لها بصحة هذه الفكرة من عدمها، بل لها علاقة بملائمة هذه الفكرة لحاملها، أي الإنسان ودماغ هذا الإنسان تحديدا والطريقة التي يعمل بها.
فعلى سبيل المثال تحب الغالبية الساحقة من الأمهات أولادها وستظل تحبهم وتلتمس لهم الأعذار مهما فعلوا حتى ولو كانوا من عتاة المجرمين والقتلة، وسترفض الأم الدلائل على إدانة ولدها حتى لو كانت في وضوح الشمس، وتتعلق بحبال الهواء لتصدق براءته، وحتى إذا صدقت إدانته ستلتمس من الناس تخفيف عقوبته، وترمي اللوم على ظروفه ومجتمعه إلخ...
وهذا طبيعي ومعروف بل وحتى مقبول، ليس لأنه صحيح منطقيا وعقليا، بل لأن دماغ الإنسان تم تشكيله عبر مئات ملايين السنين من التطور كي يحمي صغاره ويعطيهم أكبر فرصة في التكاثر وحفظ النوع والجينات، أما المنطق والعقل فقد أتى في مرحلة لاحقة كثيرا على ذلك ولم يبدأ في لعب دور يذكر في تكوين العقل البشري إلا منذ فترة لا تتعدى آلاف السنين ولا تشكل نسبة تذكر بالمقارنة.
وإذا تركنا المستوى الفردي إلى المستوى الجمعي في مثال آخر، فالشعوب الغازية تلتمس الأعذار لنفسها دوما في عدوانها، ولا تعتقد أنها مخطئة في قتل وطرد شعوب أخرى وسرقة خيراتها، وتكون المبررات تارة دينية، وتارة أخرى لمحاربة الشيوعية وثالثة لنشر التقدمية والاشتراكية ورابعة لفرض الديمقراطية وخامسة قومية وهكذا.
بإمكانك مناقشة الإسرائيلي العادي قدر ما تشاء بالحجة والمنطق في أنه شرد شعبا وسرق أرضه، هل ستقنعه ؟
بإمكانك مناقشة العروبي العادي قدر ما تشاء بحق الأكراد في تقرير مصيرهم، هل تتوقع نتيجة إيجابية ؟
وهذا طبيعي ومعروف ومقبول أيضا لأن الإنسان في النهاية مبرمج كي يدافع عن مجاله الحيوي Territory مثل أي أسد أو نمر شاب يطرد سابقه العجوز كي يستولي على حيز الصيد الخاص به بدون أن يلقي بالا إلى الأخلاق والحق التي لا تلعب أي دور في صراع البقاء.
ما تغير فقط هو أن هذا الإنسان يريد تبرير عدوانه وإقناع نفسه قبل الآخرين أنه على حق بعد دخول مفاهيم الحق والعدل – المحدثة كثيرا – على الساحة.
وفي هذا السياق يبدو الفكر الديني من أكثر الأنماط الفكرية قوة ومنعة، ولعله ليس من قبيل المصادفة تواجده بشكل أو بآخر في الغالبية الساحقة من المجتمعات البشرية حتى المعزولة منها، وسأبين في هذا المقال ما يجعله بهذه القوة.
1 – الخوف:
الإنسان ضعيف، يمرض ويموت، تصيبه الكوارث الطبيعية والجائحات، تحرقه الشمس ويلذعه البرد. وقد بدأ الدين بعبادة قوى الطبيعة لاتقاء شرها وتخفيف أذاها، وبرزت الحاجة له للاحتماء بقوى تخيلية ترد عنه الطبيعة في غياب قوى حقيقة تستطيع ذلك.
ولعل الخوف من الموت هو العامل الأقوى في الفكر الديني، فمنذ بدأ دماغ الإنسان يعي وجوده، أدرك أن الموت هو النهاية الحتمية، ولم يستطع بشكل من الأشكال تقبل هذه الفكرة على بساطتها، ولجأ أولا إلى الآلهة لإطالة حياته قدر الإمكان بكف أذاها عنه وإعطاءه ما يأكله وبشربه، ولكن لطول الحياة حدود مهما امتد، وبالتالي اضطر نظرا لغروره ورفضه فكرة الموت، أن يلجأ إلى هذه الآلهة مرة أخرى ويجعلها تحييه إلى الأبد هذه المرة لكن ليس هنا، بل في مكان لا يوجد فيه معاناة ولا ألم ولا تعب ومشكلته الوحيدة أنه موجود فقط في ذهن الناس وليس في الحقيقة.
قارن هذا بكلام الإلحاد البارد عن أن الطبيعة لا تحفل بنا ولا تهتم بسعادتنا أو تعاستنا وأن الموت هو النهاية المطلقة للكائن الحي، ماذا تفضل ؟
وبرغم آلاف السنين من التطور العلمي والعقلي، لا يزال الإنسان ضعيف ولا يزال يمرض ويموت، وهذا لن يتغير، وهنا أيضا يحارب العلم والمنطق موروثا جينيا في حب الحياة عمره مئات الملايين من السنين وأثبت فعاليته، ولذلك لا أتوقع أنه سيأتي يوم تزول فيه الأديان والتفكير الغيبي مهما امتد الزمان وإن تطورت وتغيرت مع رقي وثقافة متبعيها.
2 – ظلم الحياة: لن آت بجديد ولن أتوقع آهات الإعجاب على قوة ملاحظتي إذا قلت أن الحياة لم ولن تكون عادلة، فنحن لا نختار مكان وزمان ولادتنا ولا جنسنا ولا جمالنا ولا صحتنا ولا مقدار ذكائنا، ولا ثروة والدينا إلخ ..
وعندما ننظر إلى صور الأطفال الأفريقيين المساكين الذين يتضورون جوعا والذين عبست الدنيا في وجههم وسدت الآفاق عليهم، أو الأطفال العراقيين المنكوبين بأهلهم من جراء العنف المجنون أو الفتيات الصغار اللواتي يبعن للدعارة في الشرق الأقصى، وننظر في المقابل للأطفال الأثرياء المتوردي الوجوه الضاحكين الذين يعتبرون أن الملاعب الفسيحة الخضراء والألعاب والتعليم الجيد والعناية الصحية والأهل المحبين والخدم والسيارات كلها أمر طبيعي وحق مكتسب بالولادة لا جدال فيه.
عندما نرى الأثرياء يرفلون في النعيم والفقراء يكدحون من مطلع الشمس إلى آخر الليل كي يحصلوا على لقمة الكفاف المغمسة بالدم.
وعندما نرى القتلة والظلمة واللصوص يتمتعون بنتائج إجرامهم وضحاياهم المعذبة تتطلع إليهم بعجز وانكسار.
عندما نكون في الطرف الضعيف أو المستضعف ونرى كل ذلك، ألا نريد أن نسمع أنه يوجد من سينصفنا ؟ ألا نريد أن نصدق أنه في النهاية سنحصل على حقنا وزيادة ؟
هل نريد أن نسمع أو نصدق من يقول لنا أننا سنموت وأن ظالمنا سيموت وأن هذا سيكون نهاية كلينا وأن حقنا سيموت معنا ولن يتحقق العدل أبدا ؟
هل توجد حقيقة ضرورة لأن يثبت من يخدرنا بكلامه عن العدل المفترض طروحاته ؟ ألا يسمعنا ما نريد أن نسمعه ؟ ما قيمة البراهين أمام الراحة النفسية ؟
لا أدري كم مرة سمعت في مناقشاتي مع الدينيين صيغا مختلفة من عبارة:
"هل من المعقول ألا تتم معاقبة الظالم ومكافئة المحسن ؟"
وكان جوابي - غير المقنع بالنسبة لهم غالبا - دوما هو: هل إذا نظرت إلى طير في السماء وحسدته على قدرته على الطيران، هل يصبح من الواجب أن ينبت لي جناحين كي أفعل مثله ؟ ويصبح من غير المعقول عدم حدوث ذلك ؟؟
من أين أتيتم أن الحياة يجب أن تكون عادلة ؟
لماذا على الكون أن يراعي مشاعرنا ؟
هل يوجد برهان على ذلك سوى تخيلات الإنسان وما يطلق عليه Wishful Thinking ؟
انظروا في صراع الحياة بين مختلف الكائنات الحية، هل ترون أثرا لشيء اسمه عدل أو حق ؟
عندما تلعب القطة بفريستها المسكينة وتعذبها لفترة طويلة قبل قتلها، هل يوجد إله سينتقم من القطة لقسوتها ؟
هل سينتقم الإله من الأسد حين يقتل الأشبال المولودين من غيره عندما يصبح الذكر المسيطر ؟
وبإمكاني أن آتي بعشرات الأمثلة عن قسوة الحياة وعبثيتها لولا خوف الإطالة والإملال. لماذا البشر استثناء من كل الكائنات الحية يجب أن يكون لهم عدالة ؟ هل لأنهم واعين وعقلهم متطور أكثر من بقية الحيوانات ؟ أين يوجد إثبات العلاقة السببية بين الوعي والعدالة ؟؟
الجواب المنطقي على التساؤل الديني هو: طبعا معقول، لن تتم معاقبة الظالم إلا على الأرض وفي حياته ولن تتم مكافأة المحسن إلا على الأرض وفي حياته، والموت هو نهاية كليهما، نقطة انتهى. وما عدا ذلك ما هو إلا تمنيات وأوهام وأحلام نريد أن نقنع بها أنفسنا للعزاء لا أكثر ولا أقل. كلام جاف ومزعج ومؤلم، ولكن للأسف لا يوجد في العلم والمنطق أثر لكلمات مثل الراحة والسعادة والعزاء، بل الحجة والدليل والبرهان فقط.
يمكنني أن ألخص النقطتين السابقتين باختصار: الدين يسمعنا ما نريد سماعه، وعندما نسمع ما نريد سماعه لا ندقق كثيرا على البراهين والحجج، بل ونتجاهل حتى الحجج المعاكسة أيضا إذا لزم الأمر. ويلعب على هذه النقطة بالذات حواة وسحرة الإعجاز العلمي بنجاح منقطع النظير.
وكما لا أتوقع أن يزول الموت في يوم من الأيام، كذلك الأمر بالنسبة للظلم، ومعهما بالطبع الفكر الديني.
3 - الأجوبة الشاملة والسهلة: الإنسان حيوان فضولي يحب أن يعرف كل شيء، ومنذ وعى نفسه بدأ يطرح الأسئلة حول ماهية الوجود ومن هو وكيف أتى ولماذا يموت إلخ ..
وهذه الأسئلة وجيهة أولا وغير سهلة على الإطلاق ثانيا، وبكل تأكيد كانت تتجاوز فكر وقدرة استيعاب الإنسان البدائي الذي بدأ بطرحها، وفي غياب أي علم يستطيع تقديم أي إجابة ملأ الدين الفراغ فورا نظرا لأنه يقدم إجابات عوضا عن اللا أدري الإلحادية الوحيدة الممكنة في ذاك الزمن.
لا أدري كم مرة سمعت الأسئلة التالية وأمثالها (وأشهرها بلا منازع أولها):
- من خلقك ؟
- كيف خلق الكون ؟
- من أين أتيت وأين ستذهب بعد الموت ؟
- ما هي الغاية من حياتك ؟
وبصرف النظر أن كل هذه الأسئلة مغالطات منطقية في المقام الأول ولا يمكن الرد عليها أصلا، حيث أن الصيغ الصحيحة لها هي:
- ما تفسير وجود الإنسان ؟
- ما تفسير وجود الكون ؟
- هل توجد كينونة لوعي للإنسان سابقة لولادته وتستمر بعد موته ومستقلة عن جسده المادي ؟
- هل توجد غاية من حياة الإنسان ؟
بصرف النظر عن ذلك، نجد أن رجال الدين ليس فقط يطرحون هذه الأسئلة التي قد تبدو وجيهة للإنسان العامي، بل لديهم الإجابات أيضا !!
وليس أي إجابات، بل إجابات سهلة وبسيطة أيضا يمكن أن يفهمها أي شخص بغض النظر عن ثقافته وعلمه واطلاعه !!
كلمة واحدة سحرية من أربعة أحرف (بالعربية، فكل مجموعة كهنة لها إلهها الخاص) تحل كل الإشكالات وتزيل كل لبس وغموض: الله !!
قارن سهولة ذلك مع الأوتار الفائقة واللاتناظر والفقاعات الكونية والطفرات والضغوط التطورية وشيفرة الدي إن إيه وما إلى ذلك من كلام مبهم وغامض لا تفقه الغالبية الساحقة من الناس منه شيئا !!
صحيح أنه توجد نقطة ضعف صغيرة للغاية في الكلمة السحرية وهي أن الكاهن أعفى نفسه من تفسير وجود هذا الله نفسه وهكذا فسر الماء بعد الجهد بالماء، بل أتعس بكثير إذ فسر الوجود المعقد بفرضية أعقد من الوجود نفسه بكثير وليس لها تفسير بدورها.
لكن هذه النقطة البسيطة يمكن الالتفاف حولها بسهولة بالخطابة التقريرية الصارمة عن استحالة التسلسل منطقيا ووجوب الاستعاذه بالله نفسه عند السؤال عن تفسير وجوده !!
وبالنسبة للمتذاكين من هواة الفلسفة والجدل الذين لا يقتنعون بسهولة، تم تدبير الأمر بالكلام المبهم (والفارغ) عن الواجب والممكن والمستحيل ووجوب الله ووجوب صفاته واستحالة وجود غيره إلخ ...
وبرغم من أن هذا الكلام لا يمكن أن يقنع شخصا واعيا فهذا ليس مشكلة على الإطلاق، إذا أن الخطاب الديني ليس موجها لهذا الشخص أصلا ولا يتوقع اقتناعه في أي حال، لكن الهدف منه هو الدخول مع اللاديني العنيد في حوار فلسفي لا تفقه العامة فيه من حجج الطرفين شيئا وتعتمد على ثقتها بعلم الكاهن وقدسيته في تصديقه أكثر بكثير مما تعتمد على صدق براهينه المعقدة وقوة حجته.
وهكذا يبدو الاختيار للإنسان العامي بين شخص قديس ذو لحية طويلة وعمامة أو صليب كبير تنم جميعا عن سعة العلم والتبحر في الفهم، يعطيه إجابات سهلة ووافية و"منطقية" يمكن أن يفهمها،
وبين شخص آخر غالبا بلا لحية وبلا ادعاء قدسية يعطيه إما أجوبة مضحكة مثل أن الإنسان أصله قرد أو سمكة !! تصور !! شيء غريب فعلا عقل هؤلاء الملاحدة !!
أو يعطيه أجوبة مبهمة وغامضة لا تقنع عاقل عن اللاتناظر والأوتار الفائقة كي يميع الموضوع ..
أو ثالثة الأثافي والطامة الكبرى وقاصمة الظهر يجيب لا أعرف !! تصور جهل هذا المتعالم الذي يبني اعتقاده على الظنون !! تصور فقط !! الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا !!
فإذا أضفنا إلى كل ذلك أن الكاهن يدعم كلامه بقليل (وأحيانا بكثير) من سياسة العصا والجزرة والوعد والوعيد بالإضافة إلى الحجة، وهذا يخلو منه حديث مدعي العلم المتذاكي البائس تماما حيث لا يعدك بشيء إن صدقته ولا يهددك بشيء إن لم تفعل، وفي هذه الحالة الأسلم طبعا هو اتباع الكاهن والمراهنة على المضمون، فإن صدق الكاهن فزنا وإن لم يصدق لم نخسر !!
إذا أخذنا ذلك كله بعين الاعتبار، بأمانة من ستصدق ؟
من صاحب الفكر الأقوى ؟
من يمكنه مقاومة بساطة وإعجاز البعر والبعير ؟
4 – الإرهاب:
ولا أقصد هنا بالطبع إرهاب القاعدة وأمثاله، بل طريقة التفكير التي تعتمد التخويف والإقصاء في الإقناع عوضا عن المنطق والحجة. وهنا سأخصص قليلا وأناقش بشكل رئيسي الأديان الابراهيمية الثلاثة التي يدين بها أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، وسأخصص أكثر بالإسلام تحديدا الذي لا يزال مع الأسف مستعصيا حتى الآن على المصالحة مع الحضارة وبقية النظم الفكرية.
أبدأ بشرح هذه النقطة من مبدأ أن الإنسان يخلق الإله على شاكلته، وتتغير حتى صفات الإله الواحد حسب المزاج العام لأتباعه.
فالبدوي في معيشته القاسية في الصحراء تحرقه الشمس ويقرصه البرد ويعضه الجوع، وحيث تكون الخيارات عادة أمامه هي "إما قاتل أو مقتول" وتمثل القبيلة والجماعة له الانتماء الكلي وفرصة الحياة الوحيدة، هذا البدوي يخلق إله على شاكلته، قاسيا، جلفا، عشائريا، غيورا، محدود الأفق ولا يتحمل العصيان.
والحضري المتنعم في الحياة، الميسور الحال، الذي يملك وقتا من الفراغ يستغله في الفنون والشعر والعلم وتقدير الجمال بعيدا عن الصراع اليومي لانتزاع لقمة العيش، يخلق إله مثله، يعيش ويدع غيره يعيش، متسامح، رحيم، لا يهمه فرض طاعته على الجميع ولا يضيق ذرعا بالاختلاف.
وكي لا نتكلم في المجردات، لنعقد مقارنة بين إله المسيحية الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين حيث يتغنى المسيحيون على أنغام القيثارة وزقزقة العصافير بحب المسيح للبشر ومغفرته ورحمته وملكوته وفدائه إلخ، وبين نفس هذا الإله بالضبط قبل 900 سنة زمن الحروب الصليبية، الإله الذي كان لا يرتوي من الدم والذي لا يرضى إلا بإبادة أعداءه عن بكرة أبيهم نساء وأطفالا ورجالا، شيبا وشبانا وتدمير مدنهم وحرثها بالملح.
من هو إله المسيحية الحقيقي ؟ الجواب هو كلاهما، فهذا الإله ليس إلا فكرة في العقل الجمعي لأتباعه وبالتالي يتغير مع تغير هذا العقل الجمعي. وعندما تنعم المسيحيون الأمريكيون والأوروبيون بالحضارة والعلم وتحسنت أحوالهم المادية بدأت تخف غلواء إلههم خصوصا بعد تقليم أظافره من قبل المد العلماني، وبرأيي أن تسامح المسيحية الحالي لا يرجع إطلاقا إلى تعاليمها الرحيمة التي أعاد المؤمنون اكتشافها بعد أنهر الدم التي أسالها أجدادهم بل إلى ضعفها أولا وترقي معتنقيها ثانيا، لا أكثر ولا أقل.
يلعب الإرهاب والتخويف دورا أساسيا في الأديان الإبراهيمية، وإذا اعتبرنا للتبسيط أن اليهودية البدوية والمسيحية هما عمليا شيء واحد كونهما تتشاركان في العهد القديم، وأن الإسلام ليس إلا نسخة منقحة ومعدلة عن اليهودية الصحراوية القاسية، نستطيع أن نفهم أن الإله الإبراهيمي عمليا ليس إلا شيخ عشيرة بدوي، فهو:
– له أمة خاصة به (أمة بمعنى جماعة وليس بمعنى nation المحدث) وينظر إلى الدنيا من منظار: نحن وهم.
– لا يوجد بالنسبة له شيء اسمه اختلاف أو رأي آخر أو حرية على الإطلاق، وهذا طبيعي إذ أن كل هذه المفاهيم لم تكن حتى تدخل في نطاق التفكير في ذلك الزمن والبيئة.
– غيور لأقصى درجة ولا يحتمل أي مشاركة في الولاء.
– عصبي المزاج وقاسي القلب بشكل غريب وليس لانتقامه من أعداءه حد.
– كريم لأقصى درجات الكرم مع أتباعه وحلفاؤه (سواء في الدنيا أم في الآخرة).
ولعل الإرهاب والتخويف هو عامل الإيمان الأول في الإسلام تحديدا، فالقرآن ليس بالكتاب الكبير، وخصص قسم منه للقصص والروايات، وقسم آخر ليس كبيرا للتشريع ويكاد يكون الباقي كله تخويفا وتهديدا ووعيدا بأبشع الانتقامات وأشنع العقوبات التي تجعل أقسى الجلادين البشريين ملاكا رحيما مقارنة بها. ولا داعي لأن آتي بأمثلة لأن القرآن كله مثال كبير على ذلك.
والتخويف سلاح فعال للغاية في "الإقناع" كما يعرف الجميع، فمن الأسهل كثيرا أن تقول للشخص: لا تفعل كذا وإلا عاقبتك من أن تقول له لا تفعل كذا لأن ذلك يضر بالمجتمع ككل، بلا مجتمع بلا كلام فارغ..
لكن ليس هذا هو الإرهاب الذي أقصده كعامل قوة في الفكر الديني، على العكس تماما، فالإرهاب والتهديد هو سلاح ضعيف الحجة وليس العكس حتى في نظر العامة والبسطاء.
الإرهاب الذي أقصده كعامل قوة هو إرهاب من يتصورون أنهم وكلاء الإله على الأرض، سواء عن حسن نية أو سوء نية.
فحسني النية منهم يدفعهم ذعرهم من إغضاب إلههم المحدود الأفق والمعكر المزاج دوما والمتفرغ للاهتمام بالصغائر بدءا من الرجل التي يجب بها دخول الحمام إلى طول اللحية وليس انتهاء بأي رجل يجب أن توضع على الأخرى أثناء الاضجاع. وهو متربص دوما بعباده على أقل غلطة كي يخسف الأرض بهم.
يدفعهم هذا الذعر ليس إلى التدين الشخصي فحسب، بل إلى إخراس أي صوت يمكنه إزعاج إلههم حتى ولو لم يكن لهم علاقة به كي لا يصب حمم غضبه عليهم، وهو من له باع طويل في الانتقام بشكل عشوائي والعقوبات الجماعية التي تصيبب الصالح والطالح والبريء والمذنب بلا تمييز بدءا من نوح إلى عاد وثمود وليس انتهاء بالتسونامي، تماما مثل زعماء قبائلهم الأرضيين الذين خلقوا إلههم على شاكلتهم.
والحيوان المذعور والمحشور في الزاوية هو أخطر الحيوانات وأكثرها قدرة على الإيذاء، وهناك أمثلة لا تحصى في التاريخ عن هجوم رعاع المتدينين على من يتصورونهم سبب بلائهم من "الكفار" و"الفاسقين" و"المنحلين" و"العاهرات" بعد الكوارث الطبيعية والأوبئة والمجاعات، ومحاولتهم تملق وتهدئة غضب الإله بقتلهم والتمثيل بهم.
أما سيئي النية منهم الذين يستخدمون الدين كمطية للوصول إلى الثروة والجاه فأمرهم ليس أفضل بل أسوأ، إذ على الأغلب يزاودون على البقية في الغلو والتشدد لكي يظهروا عليهم ويثبتوا أنهم أكثر إخلاصا منهم.
هذه الناحية من قوة الفكر الديني لا تتعلق بالإقناع والتفضيل الشخصي العاطفي كالنقاط السابقة، بل بميله الطبيعي لحجب الفكر المعاكس وإخراسه تماما إما قتلا أو منعا أو نفيا وإسماع العامة وجهة نظر واحدة فقط مما ينفي الحاجة للدخول في نقاشات لا داعي لها أصلا وتقديم الحجج فيها. وفي غياب أي معارضة لا توجد صعوبة كبيرة في تمرير حتى أشد الأفكار سخفا وضحالة ما دام لا يوجد من يفندها.
وهكذا يتضافر الإرهاب الفكري للإله مع الإرهاب الإنساني لوكلائه الأرضيين لتثبيت وتقوية الفكر الديني أكثر وأكثر بين الناس.
5 – السلطة والنفوذ: تساورني دوما شكوك – لا أستطيع إثباتها طبعا – بأن عددا لا يستهان به من الكهنة ورجال الدين ملحدين حقيقة يستخدمون الدين كأداة رائعة للوصول إلى النفوذ والجاه، وترتفع نسبة الملحدين منهم كلما ارتفعنا في السلك الكهنوتي حتى تصل إلى الغالبية العظمى بين القيادات والنجوم منهم.
قد يبدو هذا الكلام للوهلة الأولى غريبا وشطحة كلامية وتجنيا عليهم، لكني سأسرد رؤيتي وتفسيري وأترك للقارىء أن يوافقني أو لا، ولكن أطلب منه إن لم يوافقني أن يقدم تفسيرا أفضل على الأقل.
للمفارقة، يشاركني في هذه الرؤيا كل المتدينين البسطاء عمليا، فهم يتصورون أن أي رجل دين من أي طائفة غير طائفتهم بالذات مهما كانت هم ملحدين متخفين يعرفون حقيقة كذب دينهم الخرافي ولكن هدفهم الوحيد هو حرف الناس عن دين الحق الواضح كالشمس لكل ذي عقل والذي هو بالمصادفة السعيدة هو دين هؤلاء البسطاء وطائفتهم تحديدا.
وبتنحية هذه النظرة الطفولية جانبا نجد أن الإيمان موجود فعلا بدون أي شك في كل الطوائف والأديان ولا يقل إيمان الإنسان البسيط المسلم عن نظيره المسيحي بأي حال من الأحوال، بل وأكثر من ذلك لا يقل إيمان الشماس الصغير المسيحي بالثالوث والفداء رسوخا عن إيمان طالب الشريعة الشاب المسلم بالجن والملائكة.
لكن يبدأ الأمر بالتغير بسرعة كلما صعد الكاهن في سلم الكهنوت، حيث يتعرف فعلا عل كتبه المقدسة عن كثب وليس عن طريق المرشحات التي تنقيها لأسماع العامة، وفي نفس الوقت يترك نقاء كتبه المقدسة على مقاعد الدراسة ليدخل في تحديات العالم الواقعي ويتعامل مع الحياة كما هي وليس كما يقرأ عنها.
هنا يصطدم بمشكلة كبيرة، فالمطلق المكتوب في النصوص المقدسة يتعارض مع الواقع على الأرض اجتماعيا وعلميا على مختلف الأصعدة، وهذا المطلق لا يمكن أن مخطئا لأنه سماوي ولكن في نفس الوقت الواقع يفرض نفسه بقوة فما العمل ؟
هنا أمام الكاهن ثلاثة طرق:
– أن يترك الكهنوت ويلحد. وهؤلاء أقل من القلة ومنهم عبد الله القصيمي وشهاب الدمشقي مثلا.
– أو أن يبقى مع الكهنوت ويكون صادقا مع نفسه وينكر الواقع والعقل لصالح النصوص المقدسة، وهذا طريق المخلصين منهم مثل عبد العزيز بن باز وأسامة بن لادن. وهؤلاء قلة لا تخشى تسمية الأشياء بمسمياتها ولا تتحرج عن الإعراب عما تعتقده فعلا.
ومنهم أيضا الشيخ مهدي الخالصي العراقي الشيعي الذي لا يتحرج من القول أن الرق والتسري نظام ممتاز ولا غبار عليه في معاملة أسرى الحرب ونسائهم وأطفالهم.
– أو أن يبدأ في التفكير المزدوج والكذب على نفسه لإقناعها أنه لا تعارض بين النصوص الدينية والواقع، وهؤلاء هم الغالبية الساحقة برأيي.
يبدأ بالكذب على نفسه أولا ولكن هذا لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، فالشيخ يعرف، على العكس من المؤمن البسيط دواخل وخوارج الدين وما تقوله الكتب الدينية بالضبط وليس ما يردده الكذابون والمدلسون على لسانها.
عندما يصل الكاهن إلى مرحلة معينة من التفكير المزدوج لا بد أن يعرف أنه يكذب عامدا متعمدا ولكن في هذه اللحظة أو قبلها يكون الوقت قد فات على التراجع وأصبح للكاهن أتباع ومريدين يقبلون يديه ويجلسون كالغنم تحت منبره كي يلتقطوا درر الحكمة التي تتناثر من فمه وينهلوا من غزير علمه.
وكي لا نبقى على مستوى التنظير، لنتناول بعض الأمثلة الحديثة نسبيا والإسلامية منها خصوصا كونها مألوفة بين القارئين:
- يا هل ترى هل يعتقد أي رجل دين من نجوم الفضائيات فعلا أن الإسلام يتفق فعلا مع حرية الفكر والتعبير ؟
- هل يصدق من قرأ تفاصيل تاريخ الرق والخصي والتسري المخزي في العالم الإسلامي - والذي لم ينته حتى اليوم بشكل كامل - أن الإسلام كان فعلا يحض على تحرير العبيد ؟
- يا هل ترى هل يعتقد الزنداني والنجار فعلا بالهراء الإعجازي الذي يلفقانه عندما يخترعان أستروخ وبالما وأبحاث العلماء الوهمية عن أجنحة الذباب ؟
- هل يعتقد أي شيخ مخلص لعقيدته فعلا أن الإسلام يحترم المرأة عندما يشنف آذان مستمعيه البسطاء ببعض النصوص الإيجابية ويهمل معاكساتها ؟
- هل يصدق عمرو خالد فعلا - كونه قرأ التاريخ الإسلامي – حين يصعد الزفرات ويذرف الدموع السخينة ويتهدج صوته تأثرا أمام أتباعه أن مجتمع الإسلام الأول كان مجتمعا مكونا من الملائكة الأطهار ؟
هذا كله بفرض أن نية الكاهن كانت صادقة في البداية وبدون ذكر وعاظ السلاطين المفضوحي الكذب الذين تكون مهمتهم تبرير أي تصرف أو موقف سياسي لأرباب نعمتهم مهما كان، فهؤلاء محتقرين عادة حتى بين تابعيهم. ولكنهم يشاركون أصحابهم السابقين في المصلحة بنشر الفكر الديني بين الناس.
كم من البشر يستطيع مقاومة شهوة الشهرة والنفوذ ؟ كم من البشر لا يرغب بنظرات الاحترام والتبجيل ممن حوله ؟
هذه النظرات يمكن أن يحصل عليها العالم الحقيقي طبعا، لكنها تحتاج لجهد ووقت وتفاني وذكاء بينما لا لزوم في حالة الكاهن إلا إلى فهم نفسية الناس وما تريد أن تسمعه وبعض التلاعب بالكلام وتطويل اللحية ولبس ثياب غريبة.
هل يتوقع من هؤلاء إلا أن يحاربوا وبكل قوة وبكل الأسلحة المتاحة لهم من يريد نشر الفكر العلمي ؟ هؤلاء وبرغم معرفتهم بكذبهم لا يقلون عداء للعلم على الإطلاق عن المخلصين من الفئة الأولى بل وربما يزيدونهم. ولهم كل مصلحة ورغبة في تعميق ونشر الفكر الغيبي بين الناس وإغراقهم أكثر وأكثر في الخرافات، إذ لا مكان لهم في مجتمع عقلاني على الإطلاق سوى للتسلية والترفيه في السيرك.
وهم أخطر من المؤمنين الحقيقيين من أمثال بن باز بكونهم يستهدفون عموم الناس بكلامهم بينما لا يلتف حول المؤمن الحقيقي إلا غلاة المتشددين، وهم أيضا مثل أي سياسي لا يتحرجون من الكذب والتلفيق والضرب تحت الحزام في سبيل مصالحهم وحفاظا على مراكزهم.
بعضهم يتبع طريقة التلفيق والكذب لنشر قيم التسامح والحرية والتنوير مثل الشحرور والنيهوم وجمال البنا وغيرهم، ولربما بدون مصلحة خاصة تذكر إذ يسبحون بعكس التيار أحيانا، ولكن المبدأ واحد والأسلوب واحد للأسف، وعندما يلعبون هذه اللعبة فهم يلعبونها على أرض الخصم (الكهنة التقليديين) وحسب شروطه ومعاييره وباعتماد طريقة تفكيره ذاتها التي تعتمد على قدسية النص، ولا أرى طريقة يمكن أن ينجحوا فيها للأسف ولربما كان ضررهم أكثر من نفعهم على المدى البعيد.
وعلى الطرف الآخر لا توجد قوة مكافئة من العلماء الحقيقيين والفلاسفة تحارب بالسيف وبأقذر الوسائل، فهم لا يملكون قوة سياسية عادة وليس لهم أتباع ومريدون يحاربون من أجلهم، ومنفصلون عادة عن العامة في أبراج عاجية.
توجد بعض نقاط القوة الأخرى الثانوية مثل اختراع الشيطان كشماعة نعلق عليها أخطاءنا وفكرة المغفرة التي تسكب العزاء في قلوب الناس وربما غيرها أيضا، ولكن برأيي ليس لها نفس أهمية النقاط السابقة.
ما أريد أن أقوله من هذا الاستعراض هو أن الحرب على الفكر الغيبي لم ولن تكون سهلة، حيث تتضافر عناصر القوة الخاصة به في نفوس العامة من الناس والتي تخاطب غرائزهم الأساسية المغروسة فيهم منذ أبعد الأزمان، تتضافر هذه العناصر مع مصلحة من يهمه التسلق والوصول السهل في تقويته وتغذيته لتشكل جبهة منيعة يصعب اختراقها ومنظومة مرنة إذا هزمت في معركة تستطيع لم جراحها والعودة بأقوى مما كانت بعد حين.
وباعتقادي أن المعركة بين العلم والدين هي معركة أبدية ستظل قائمة ما دام الإنسان يمشي على سطح الأرض، ومن المؤسف أن نكون نعيش في عصر ومكان الغلبة الحالية فيه للدين ولكن الدنيا دوارة ولننتظر ونرى.