قرأت في أكثر من كتاب ومقالة أن الشيخ محمد متولي الشعراوي سجد شكراً لله بعد هزيمة مصر عام 1967 لأن هزيمتها تحت المشروع القومي الاشتراكي منعت الشعب المصري من أن يفتن عن دينه حسب قوله، وبالتالي، وهذا قولي أنا وليس قوله، وهو الأهم كثيراً عملياً، مهدت للردة الحضارية التي حصلت فعلاً بعد ذلك وعودة رجال الدين إلى الواجهة بعد أن تم تحجيمهم بشكل أو بآخر في عهد قوة وعنفوان المشروع القومي "العلماني".
وكوني لم أقرأ هذا الكلام شخصياً في أحد كتب الشعراوي أو في موقع رسمي له، لا أستطيع التأكيد على صحة الحادثة وإن كانت رواية "متواترة" يستحيل أن يجتمع رواتها على الكذب، ولكني أفهمها تماماً لو كانت صحيحة، فالرجل برأيي هو مزيج من شخصيتين:
أولاً مسلم متدين يرى في العلمانية خطراً أكبر من خطر إسرائيل على عالمه.
وثانياً رجل سياسة جماهيري محترف ومحنك رأى فرصة ذهبية سانحة في هزيمة وإفلاس عدوه الفكري.
وبالتالي لا غرابة أن يشعر ما شعر، وما أريد كتابته في هذا المقال هي الأفكار المشابهة منها والمختلفة التي تزاحمت في رأسي وأنا أتابع المذبحة التي نفذتها إسرائيل في غزة مؤخراً بحق شعب سجين أعزل ليس له حول ولا قوة أمام جبروت جيشها.
لأبدأ ببعض النقاط التي تجعلني "وطنيا":
1 - المبرر الأخلاقي لمقاومة الاحتلال الاستيطاني بأي وسيلة من الوسائل لا جدال فيه بالنسبة لي، أي شعب جرد من أرضه وشرد مثل الشعب الفلسطيني له كل الحق في استعمال المقاومة المسلحة لاستردادها. قراءة التاريخ بحيث يبدأ بعد عام 1948 وتصوير أن الفلسطينيين يحاربون إسرائيل لأن الحرب تستهويهم أو لأنهم أشرار بالفطرة مثل أعداء سوبرمان والوطواط في المغامرات المصورة هو مهزلة بكل بساطة. قليلة هي القضايا التي يكون فيها الحق واضحاً مثل وضوحه في القضية الفلسطينية.
2 - لا يملك الفلسطينيون (وأي حركة مقاومة عادة) ترف اختيار أهدافهم بحيث يركزون على الأهداف العسكرية ويتركون المدنيين، عندما تكون حركة المقاومة بهذا الضعف أمام جبروت عدوها لا يسعها إلا أن تضرب حيثما استطاعت وفي خاصرة العدو الضعيفة وحيث تستطيع إيلامه.
3 - يخطئ (أو يكذب) من يظن (أو يتاجر) بأن الفلسطينيين يمكن أن يتجنبوا تصنيفهم كإرهابيين لو ركزوا فقط على مهاجمة الجنود الإسرائيليين وتركوا المدنيين، حزب الله جرب ذلك ولم ينفعه طوال عشرون عامل كاملة، حقيقة الأمر أن القوي يحاول دوماً أن يجرد الضعيف من الشيء الوحيد الذي يتفوق فيه هذا الضعيف وهو الناحية الأخلاقية، تهمة الإرهاب هي قدر لا مفر منه لأي حركة مقاومة أو تمرد، فما بالك لو كان عدو هذه الحركة له تأثير هائل على الإعلام العالمي ويتاجر ويستمر في المتاجرة بالاضطهاد الذي تعرض له على يد النازيين ويربط - بدون أي منطق - بين ما فعله النازيون به وبين ما يفعله شعب مستضعف تقطعت به السبل للدفاع عن نفسه.
4 - المقاومة الإسلامية هي مقاومة وطنية حقيقة، والصراع مع إسرائيل هو صراع سياسي وليس ديني، "الإرهاب" الفلسطيني في بدايته وحتى ثمانينات القرن الماضي كان علمانياً بشكل واضح وكانت مطالبه تنحصر في دولة علمانية يتساوى بها العرب واليهود فقط ولم ينفعه ذلك في تجنب صفة الإرهاب بالطبع، ربط الصراع مع إسرائيل بالصراع بين "الإيمان" و"الكفر" هو مصلحة إسرائيل المباشرة كي تبرر لنفسها أمام شعبها أولاً، وأمام الرأي العام العالمي ثانياً، ما تفعله من اضطهاد وظلم، وتصور نفسها كقلعة حامية لقيم العلمانية والحرية أمام جحافل الهمج الملتحين الذين يسعون لفرض رجم النساء وقطع الأيدي والأرجل على الكرة الأرضية وتدمير الحضارة كما يعرفها الغرب.
5 - المقاومة الإسلامية والسياسيون الإسلاميون الفلسطينيون - حالياً على الأقل - أنظف كفاً وأكثر نزاهة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية الذين انغمسوا في مستنقعات الفساد والمحسوبية والرشوة، وكدسوا الثروات الطائلة على حساب قضية شعبهم العادلة، وقد جاء هؤلاء القادة الإسلاميون نتيجة لإرادة شعبية حقيقية وبناء على نتائج انتخابات شهد الكل بنزاهتها، وبالتالي يتمتعون بشرعية لا جدال فيها من وجهة نظري. ليس هناك حالياً في العالم مهنة أخطر من مهنة قيادي في حركة حماس أو الجهاد الإسلامي، ومع ذلك لم أسمع أن أحدهم قد استغل مخاطرته بحياته من أجل شعبه وأرضه في جمع ثروة شخصية وبناء القصور والفيلات والتنقل بين الفنادق الفخمة لحضور مؤتمرات "النضال" لكي "يندد" من فوق منابرها بالعدوان و"يدين" تصرفاته ويطلب من "المجتمع الدولي" وقفه عند حده !!!!
6 - لا يمكن تجاهل قوة التيار الديني وشعبيته في المنطقة، ورغبة الأغلبية في حكومة دينية بالنسبة لي واضحة تماماً، وبالرغم من وضوح الفرق في ذهني بين الديمقراطية وديكتاتورية الأغلبية التي تدعو إليها الحركات الدينية، فالأمر ليس كذلك بالنسبة للغالبية الساحقة من الناس التي ترى بعينيها مرة بعد أخرى فوز الإسلاميين بانتخابات نزيهة ثم الالتفاف عليهم لحرمانهم من حقهم في تسلم السلطة من قبل حكام ديكتاتوريين وفاسدين (الجزائر، مصر وفلسطين كأمثلة). وبالنسبة لي ولغيري تبدو الحجة التي تستعملها الديكتاتوريات بأن الإسلاميون يريدون ديمقراطية لمرة واحدة فقط غاية في الهزال والسخف عندما يستخدمها أمثال هؤلاء.
ولكن، وكما يقول فيصل القاسم في برنامج صراع الديوك الشهير، دعنا نتكلم عن الجانب الآخر من الصورة:
1 - الحق والعدل ليسا من العوامل الأساسية في انتصار أي قضية، القوة هي الأساس، كون من حق الفلسطينيون أن يقاوموا بأي طريقة لا يعني أن هذه المقاومة حكيمة ويجب أن يقدر لها النجاح، التاريخ بطوله وعرضه مليء بالقضايا العادلة الخاسرة وبشعوب أبيدت أو هجرت أو استعبدت ظلماً وعدواناً ولم تفدها عدالة قضاياها بشيء.
2 - القوة لا تأتي من الشجاعة والبطولة والصمود والتصدي والتضحيات و"الشهادة" وما إلى ذلك، كل ما سبق لا يغني ولا يسمن عن جوع أمام الحضارة والعلم والتقدم والاقتصاد، لا يجب أن يخدع أحد نفسه، لو تحول كل أهل فلسطين بل وكل أهل العالم العربي والإسلامي إلى مفجرين انتحاريين فلن يفلح ذلك في إزالة دولة نووية مدججة بأحدث وأقوى أسلحة العالم من الوجود، ليس دولة تملك أسلحة نووية فقط، بل تملك أهم منها، تملك معهد التخنيون ومعهد وايزمان وعدد من أرقى جامعات العالم ومراكز أبحاثه، تملك اقتصاد متنوع وحديث وقوي. التصور أن "المرجلة" والعنتريات والشجاعة والخطب الحماسية والتلحف بالأكفان في مسيرات الغضب هو السبيل لمواجهتها هو الجنون عينه.
3 - النصر العسكري، حتى لو تم، ليس بديلاً عن النصر الحضاري، بل أكثر من ذلك، لا قيمة لأي نصر عسكري على الإطلاق في حالة الهزيمة الحضارية ولو كان هذا النصر في حجم تحرير فلسطين بأكملها، الاتحاد السوفييتي انتصر عسكرياً على ألمانيا واليابان وانهزم أمامهما حضارياً بشكل مذل وصل إلى درجة أن يهرب رياضيوه كلما سنحت لهم الفرصة بالسفر خارج أسوار سجن "الوطن الاشتراكي" ليلجأوا إلى الدول الغربية، أيضاً فيتنام انتصرت على أمريكا عسكرياً وانهزمت أمامها حضارياً ليهرب مواطنوها "المنتصرون" بالقوارب من جنة الشيوعية. الثورة الجزائرية "انتصرت" أيضاً وأخرجت الفرنسيين من الجزائر ليصطف "المنتصرون" طوابيراً على أبواب السفارة الفرنسية طلباً للهجرة إلى بلد العدو المهزوم. والأمثلة غيرها كثيرة.
الإسلاميون بنظرتهم الدوغمائية الطائفية التي تحكمها الرؤى الأسطورية الدينية التي تعبد الأسلاف وتنظر إلى الماضي لحل مشاكل الحاضر والمستقبل هم آخر من يستطيع تحقيق الانتصار الحضاري، بالإمكان رؤية الإسلاميون يحكمون في إيران وأفغانستان والصومال والسودان لمعرفة الحضارة التي تنتظرنا في حال فوزهم، بإمكاني تصور سيناريو ينتصر به الإسلاميون على إسرائيل (الإغراق العددي مثلاً أو إزعاج اليهود بحيث يقتنعون أن الحفاظ على دولتهم في محيط من العداء لا يساوي حجم الجهد المبذول لأجله)، لكني لا أستطيع تصور سيناريو يستطيع الإسلاميون فيه تحقيق نصراً حضارياً.
يا هل ترى، هل لو زالت إسرائيل بسحر ساحر غداً صباحاً ستنقلب أحوالناً رأساً على عقب ؟ هل ستختفي الأمية ؟ هل ستقل الطائفية والقبلية ؟ هل ستتحول جامعاتنا من معاهد تحفيظ ببغائية إلى مراكز بحث علمية ؟ هل سيجد أولادنا سكناً لائقاً ووظائفاً جيدة وعيشاً كريماً ؟ هل سيتوقف تدمير بيئتنا ؟ لو كان الأمر كذلك، لماذا لم يحصل ذلك في الدول العربية والإسلامية البعيدة عنها ؟ بالإمكان طبعاً إرجاع ذلك إلى المكائد التي يحيكها اليهود المتفرغون كلياً للنيل من "الأمة الإسلامية"، ليس عندي رد على منطق بهذا السخف إلا القول أنه لو كان اليهود فعلاً بهذه القوة بحيث يستطيعون التحكم بالعالم بهذه الطريقة فالأفضل لنا أن نعبدهم كشعب الله المختار !!!!!
لا أنسى خبر مقتل نزار ريان، القيادي في حركة حماس في أوائل أيام الهجوم الإسرائيلي على غزة، قتل هذا القيادي مع ثلاث من زوجاته وتسعة من أبناؤه الأربعة عشر في غارة إسرائيلية، هل سيقودنا إلى الانتصار الحضاري قادة لهم ثلاث زوجات وعشرات الأبناء ؟؟
4 - انتصار حماس أو الجهاد الإسلامي أو أي منظمة تتبنى فكر إسلامي كعقيدة على إسرائيل يعني بالضرورة حكمها لبلادي أولاً، وهذا الحكم يؤدي بالضرورة إلى تصفيتي جسدياً وفكرياً أولاً إما بالقتل أو بالتهجير أو بالإخراس !!، طبعا لا أقصد شخصي المتواضع بهذه الجملة، أقصد بذلك أي مفكر علماني حر لا يرى تقدم بلاده في الدروشة وقطع الأيدي والأرجل والجلد وحبس النساء في البيوت وتطويل اللحى وإرجاع قوانين أهل الذمة.
أعود هنا إلى الشعراوي، فالرجل فضل هزيمة بلاده "العلمانية" كونه رأى الكوارث التي ألحقتها العلمانية فيها من وجهة نظره طبعاً، الأفكار نفسها تدور في رأسي مع فارق كبير وجوهري، لا أحد في بلاد الشعراوي "العلمانية" كان يطالب بتصفية الشعراوي جسدياً أو نفيه خارجها، لا يوجد حد ردة علماني ولا أهل ذمة علمانيون ولم يطلب أحد إغلاق المساجد وقتل شيوخها. هل يا ترى أكون خائناً إذا تخوفت من انتصار المشروع الإسلامي في بلادي ؟ هل أكون خائناً إذا تمنيت هزيمة مشروع لا يخجل من التصريح علناً والكتابة في أدبياته عن ضرورة قتلي قبل أو بعد استتابتي حسب اعتدال الكاتب أو تطرفه ؟
5 - حماس - تعريفاً حسب موقعها على الإنترنت - هي: جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين، هي فرع من الشجرة التي أنجبت سيد قطب ومروان حديد وابراهيم اليوسف وغيرهم من الأبطال الميامين. هي حزب مسلم سني حصراً وطائفي حتى النخاع، هي حزب اسمه بحد ذاته طائفي !!
حماس ليست جهاداً ضد إسرائيل فقط، هي جهاد ضد الشيعة والعلويين والدروز والاسماعيليين وغيرهم من المرتدين الزنادقة لقتلهم أو أسلمتهم، وهي جهاد في سبيل تطبيق قوانين الذمة على المسيحيين الباقين في بلادهم، هي حركة كادت تدخل سوريا في حرب طائفية شاملة، هي حركة كانت تعارض النظام ليس لأنه فاسد أو استبدادي أو فاشل اقتصادياً، كانت تعارضه لأنه نظام "نصيري كافر" حرم "أهل السنة والجماعة" الذين هم أغلبية حسب قولهم من حكم بلادهم وتطبيق شرع الله فيها !!!!
كوني مسجلاً في السجلات المدنية كمسلم بالولادة بإمكاني التخفي والتقية والتظاهر بالإيمان والعيش تحت حكم الشريعة كما يعيش أمثالي ممن شائت لهم الأقدار الولادة في إيران أو السعودية، ولكن ماذا عن أبناء بلدي من الطوائف الأخرى ؟ هل أكون متشائماً إذا توقعت حرباً أهلية شاملة تدمر بلادي أو تقسمها في أحسن حال ؟ هل يجب أن أخسر سوريا كي أربح فلسطين ؟ هذا بفرض أن استرداد فلسطين ممكن.
هذه هي الأفكار التي تتصارع في رأسي، ما هو "الموقف الوطني السليم" الذي يجب أن أتخذه ؟ ما هو رأي العلماني في "مدحي" لحركات الإسلام السياسي وما رأي الإسلامي في "ذمي" لها ؟
لا أستطيع أن أقف موقف بعض الكتاب الذين يلومون الضحية الفلسطينية التي تلبست بالإسلام حالياً على الركلات الضعيفة التي تكيلها للجزار الإسرائيلي وهو يذبحها، ولا أستطيع أن أقف وأصفق لشعب يسعى لحتفه بظلفه ويغرق أكثر فأكثر في حلول أخروية وهمية عوضاً عن مواجهة تحديات الدنيا.
كم هو صعب وضعي، يا هل ترى أين يقف القارئ من ذلك ؟
وكوني لم أقرأ هذا الكلام شخصياً في أحد كتب الشعراوي أو في موقع رسمي له، لا أستطيع التأكيد على صحة الحادثة وإن كانت رواية "متواترة" يستحيل أن يجتمع رواتها على الكذب، ولكني أفهمها تماماً لو كانت صحيحة، فالرجل برأيي هو مزيج من شخصيتين:
أولاً مسلم متدين يرى في العلمانية خطراً أكبر من خطر إسرائيل على عالمه.
وثانياً رجل سياسة جماهيري محترف ومحنك رأى فرصة ذهبية سانحة في هزيمة وإفلاس عدوه الفكري.
وبالتالي لا غرابة أن يشعر ما شعر، وما أريد كتابته في هذا المقال هي الأفكار المشابهة منها والمختلفة التي تزاحمت في رأسي وأنا أتابع المذبحة التي نفذتها إسرائيل في غزة مؤخراً بحق شعب سجين أعزل ليس له حول ولا قوة أمام جبروت جيشها.
لأبدأ ببعض النقاط التي تجعلني "وطنيا":
1 - المبرر الأخلاقي لمقاومة الاحتلال الاستيطاني بأي وسيلة من الوسائل لا جدال فيه بالنسبة لي، أي شعب جرد من أرضه وشرد مثل الشعب الفلسطيني له كل الحق في استعمال المقاومة المسلحة لاستردادها. قراءة التاريخ بحيث يبدأ بعد عام 1948 وتصوير أن الفلسطينيين يحاربون إسرائيل لأن الحرب تستهويهم أو لأنهم أشرار بالفطرة مثل أعداء سوبرمان والوطواط في المغامرات المصورة هو مهزلة بكل بساطة. قليلة هي القضايا التي يكون فيها الحق واضحاً مثل وضوحه في القضية الفلسطينية.
2 - لا يملك الفلسطينيون (وأي حركة مقاومة عادة) ترف اختيار أهدافهم بحيث يركزون على الأهداف العسكرية ويتركون المدنيين، عندما تكون حركة المقاومة بهذا الضعف أمام جبروت عدوها لا يسعها إلا أن تضرب حيثما استطاعت وفي خاصرة العدو الضعيفة وحيث تستطيع إيلامه.
3 - يخطئ (أو يكذب) من يظن (أو يتاجر) بأن الفلسطينيين يمكن أن يتجنبوا تصنيفهم كإرهابيين لو ركزوا فقط على مهاجمة الجنود الإسرائيليين وتركوا المدنيين، حزب الله جرب ذلك ولم ينفعه طوال عشرون عامل كاملة، حقيقة الأمر أن القوي يحاول دوماً أن يجرد الضعيف من الشيء الوحيد الذي يتفوق فيه هذا الضعيف وهو الناحية الأخلاقية، تهمة الإرهاب هي قدر لا مفر منه لأي حركة مقاومة أو تمرد، فما بالك لو كان عدو هذه الحركة له تأثير هائل على الإعلام العالمي ويتاجر ويستمر في المتاجرة بالاضطهاد الذي تعرض له على يد النازيين ويربط - بدون أي منطق - بين ما فعله النازيون به وبين ما يفعله شعب مستضعف تقطعت به السبل للدفاع عن نفسه.
4 - المقاومة الإسلامية هي مقاومة وطنية حقيقة، والصراع مع إسرائيل هو صراع سياسي وليس ديني، "الإرهاب" الفلسطيني في بدايته وحتى ثمانينات القرن الماضي كان علمانياً بشكل واضح وكانت مطالبه تنحصر في دولة علمانية يتساوى بها العرب واليهود فقط ولم ينفعه ذلك في تجنب صفة الإرهاب بالطبع، ربط الصراع مع إسرائيل بالصراع بين "الإيمان" و"الكفر" هو مصلحة إسرائيل المباشرة كي تبرر لنفسها أمام شعبها أولاً، وأمام الرأي العام العالمي ثانياً، ما تفعله من اضطهاد وظلم، وتصور نفسها كقلعة حامية لقيم العلمانية والحرية أمام جحافل الهمج الملتحين الذين يسعون لفرض رجم النساء وقطع الأيدي والأرجل على الكرة الأرضية وتدمير الحضارة كما يعرفها الغرب.
5 - المقاومة الإسلامية والسياسيون الإسلاميون الفلسطينيون - حالياً على الأقل - أنظف كفاً وأكثر نزاهة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية الذين انغمسوا في مستنقعات الفساد والمحسوبية والرشوة، وكدسوا الثروات الطائلة على حساب قضية شعبهم العادلة، وقد جاء هؤلاء القادة الإسلاميون نتيجة لإرادة شعبية حقيقية وبناء على نتائج انتخابات شهد الكل بنزاهتها، وبالتالي يتمتعون بشرعية لا جدال فيها من وجهة نظري. ليس هناك حالياً في العالم مهنة أخطر من مهنة قيادي في حركة حماس أو الجهاد الإسلامي، ومع ذلك لم أسمع أن أحدهم قد استغل مخاطرته بحياته من أجل شعبه وأرضه في جمع ثروة شخصية وبناء القصور والفيلات والتنقل بين الفنادق الفخمة لحضور مؤتمرات "النضال" لكي "يندد" من فوق منابرها بالعدوان و"يدين" تصرفاته ويطلب من "المجتمع الدولي" وقفه عند حده !!!!
6 - لا يمكن تجاهل قوة التيار الديني وشعبيته في المنطقة، ورغبة الأغلبية في حكومة دينية بالنسبة لي واضحة تماماً، وبالرغم من وضوح الفرق في ذهني بين الديمقراطية وديكتاتورية الأغلبية التي تدعو إليها الحركات الدينية، فالأمر ليس كذلك بالنسبة للغالبية الساحقة من الناس التي ترى بعينيها مرة بعد أخرى فوز الإسلاميين بانتخابات نزيهة ثم الالتفاف عليهم لحرمانهم من حقهم في تسلم السلطة من قبل حكام ديكتاتوريين وفاسدين (الجزائر، مصر وفلسطين كأمثلة). وبالنسبة لي ولغيري تبدو الحجة التي تستعملها الديكتاتوريات بأن الإسلاميون يريدون ديمقراطية لمرة واحدة فقط غاية في الهزال والسخف عندما يستخدمها أمثال هؤلاء.
ولكن، وكما يقول فيصل القاسم في برنامج صراع الديوك الشهير، دعنا نتكلم عن الجانب الآخر من الصورة:
1 - الحق والعدل ليسا من العوامل الأساسية في انتصار أي قضية، القوة هي الأساس، كون من حق الفلسطينيون أن يقاوموا بأي طريقة لا يعني أن هذه المقاومة حكيمة ويجب أن يقدر لها النجاح، التاريخ بطوله وعرضه مليء بالقضايا العادلة الخاسرة وبشعوب أبيدت أو هجرت أو استعبدت ظلماً وعدواناً ولم تفدها عدالة قضاياها بشيء.
2 - القوة لا تأتي من الشجاعة والبطولة والصمود والتصدي والتضحيات و"الشهادة" وما إلى ذلك، كل ما سبق لا يغني ولا يسمن عن جوع أمام الحضارة والعلم والتقدم والاقتصاد، لا يجب أن يخدع أحد نفسه، لو تحول كل أهل فلسطين بل وكل أهل العالم العربي والإسلامي إلى مفجرين انتحاريين فلن يفلح ذلك في إزالة دولة نووية مدججة بأحدث وأقوى أسلحة العالم من الوجود، ليس دولة تملك أسلحة نووية فقط، بل تملك أهم منها، تملك معهد التخنيون ومعهد وايزمان وعدد من أرقى جامعات العالم ومراكز أبحاثه، تملك اقتصاد متنوع وحديث وقوي. التصور أن "المرجلة" والعنتريات والشجاعة والخطب الحماسية والتلحف بالأكفان في مسيرات الغضب هو السبيل لمواجهتها هو الجنون عينه.
3 - النصر العسكري، حتى لو تم، ليس بديلاً عن النصر الحضاري، بل أكثر من ذلك، لا قيمة لأي نصر عسكري على الإطلاق في حالة الهزيمة الحضارية ولو كان هذا النصر في حجم تحرير فلسطين بأكملها، الاتحاد السوفييتي انتصر عسكرياً على ألمانيا واليابان وانهزم أمامهما حضارياً بشكل مذل وصل إلى درجة أن يهرب رياضيوه كلما سنحت لهم الفرصة بالسفر خارج أسوار سجن "الوطن الاشتراكي" ليلجأوا إلى الدول الغربية، أيضاً فيتنام انتصرت على أمريكا عسكرياً وانهزمت أمامها حضارياً ليهرب مواطنوها "المنتصرون" بالقوارب من جنة الشيوعية. الثورة الجزائرية "انتصرت" أيضاً وأخرجت الفرنسيين من الجزائر ليصطف "المنتصرون" طوابيراً على أبواب السفارة الفرنسية طلباً للهجرة إلى بلد العدو المهزوم. والأمثلة غيرها كثيرة.
الإسلاميون بنظرتهم الدوغمائية الطائفية التي تحكمها الرؤى الأسطورية الدينية التي تعبد الأسلاف وتنظر إلى الماضي لحل مشاكل الحاضر والمستقبل هم آخر من يستطيع تحقيق الانتصار الحضاري، بالإمكان رؤية الإسلاميون يحكمون في إيران وأفغانستان والصومال والسودان لمعرفة الحضارة التي تنتظرنا في حال فوزهم، بإمكاني تصور سيناريو ينتصر به الإسلاميون على إسرائيل (الإغراق العددي مثلاً أو إزعاج اليهود بحيث يقتنعون أن الحفاظ على دولتهم في محيط من العداء لا يساوي حجم الجهد المبذول لأجله)، لكني لا أستطيع تصور سيناريو يستطيع الإسلاميون فيه تحقيق نصراً حضارياً.
يا هل ترى، هل لو زالت إسرائيل بسحر ساحر غداً صباحاً ستنقلب أحوالناً رأساً على عقب ؟ هل ستختفي الأمية ؟ هل ستقل الطائفية والقبلية ؟ هل ستتحول جامعاتنا من معاهد تحفيظ ببغائية إلى مراكز بحث علمية ؟ هل سيجد أولادنا سكناً لائقاً ووظائفاً جيدة وعيشاً كريماً ؟ هل سيتوقف تدمير بيئتنا ؟ لو كان الأمر كذلك، لماذا لم يحصل ذلك في الدول العربية والإسلامية البعيدة عنها ؟ بالإمكان طبعاً إرجاع ذلك إلى المكائد التي يحيكها اليهود المتفرغون كلياً للنيل من "الأمة الإسلامية"، ليس عندي رد على منطق بهذا السخف إلا القول أنه لو كان اليهود فعلاً بهذه القوة بحيث يستطيعون التحكم بالعالم بهذه الطريقة فالأفضل لنا أن نعبدهم كشعب الله المختار !!!!!
لا أنسى خبر مقتل نزار ريان، القيادي في حركة حماس في أوائل أيام الهجوم الإسرائيلي على غزة، قتل هذا القيادي مع ثلاث من زوجاته وتسعة من أبناؤه الأربعة عشر في غارة إسرائيلية، هل سيقودنا إلى الانتصار الحضاري قادة لهم ثلاث زوجات وعشرات الأبناء ؟؟
4 - انتصار حماس أو الجهاد الإسلامي أو أي منظمة تتبنى فكر إسلامي كعقيدة على إسرائيل يعني بالضرورة حكمها لبلادي أولاً، وهذا الحكم يؤدي بالضرورة إلى تصفيتي جسدياً وفكرياً أولاً إما بالقتل أو بالتهجير أو بالإخراس !!، طبعا لا أقصد شخصي المتواضع بهذه الجملة، أقصد بذلك أي مفكر علماني حر لا يرى تقدم بلاده في الدروشة وقطع الأيدي والأرجل والجلد وحبس النساء في البيوت وتطويل اللحى وإرجاع قوانين أهل الذمة.
أعود هنا إلى الشعراوي، فالرجل فضل هزيمة بلاده "العلمانية" كونه رأى الكوارث التي ألحقتها العلمانية فيها من وجهة نظره طبعاً، الأفكار نفسها تدور في رأسي مع فارق كبير وجوهري، لا أحد في بلاد الشعراوي "العلمانية" كان يطالب بتصفية الشعراوي جسدياً أو نفيه خارجها، لا يوجد حد ردة علماني ولا أهل ذمة علمانيون ولم يطلب أحد إغلاق المساجد وقتل شيوخها. هل يا ترى أكون خائناً إذا تخوفت من انتصار المشروع الإسلامي في بلادي ؟ هل أكون خائناً إذا تمنيت هزيمة مشروع لا يخجل من التصريح علناً والكتابة في أدبياته عن ضرورة قتلي قبل أو بعد استتابتي حسب اعتدال الكاتب أو تطرفه ؟
5 - حماس - تعريفاً حسب موقعها على الإنترنت - هي: جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين، هي فرع من الشجرة التي أنجبت سيد قطب ومروان حديد وابراهيم اليوسف وغيرهم من الأبطال الميامين. هي حزب مسلم سني حصراً وطائفي حتى النخاع، هي حزب اسمه بحد ذاته طائفي !!
حماس ليست جهاداً ضد إسرائيل فقط، هي جهاد ضد الشيعة والعلويين والدروز والاسماعيليين وغيرهم من المرتدين الزنادقة لقتلهم أو أسلمتهم، وهي جهاد في سبيل تطبيق قوانين الذمة على المسيحيين الباقين في بلادهم، هي حركة كادت تدخل سوريا في حرب طائفية شاملة، هي حركة كانت تعارض النظام ليس لأنه فاسد أو استبدادي أو فاشل اقتصادياً، كانت تعارضه لأنه نظام "نصيري كافر" حرم "أهل السنة والجماعة" الذين هم أغلبية حسب قولهم من حكم بلادهم وتطبيق شرع الله فيها !!!!
كوني مسجلاً في السجلات المدنية كمسلم بالولادة بإمكاني التخفي والتقية والتظاهر بالإيمان والعيش تحت حكم الشريعة كما يعيش أمثالي ممن شائت لهم الأقدار الولادة في إيران أو السعودية، ولكن ماذا عن أبناء بلدي من الطوائف الأخرى ؟ هل أكون متشائماً إذا توقعت حرباً أهلية شاملة تدمر بلادي أو تقسمها في أحسن حال ؟ هل يجب أن أخسر سوريا كي أربح فلسطين ؟ هذا بفرض أن استرداد فلسطين ممكن.
هذه هي الأفكار التي تتصارع في رأسي، ما هو "الموقف الوطني السليم" الذي يجب أن أتخذه ؟ ما هو رأي العلماني في "مدحي" لحركات الإسلام السياسي وما رأي الإسلامي في "ذمي" لها ؟
لا أستطيع أن أقف موقف بعض الكتاب الذين يلومون الضحية الفلسطينية التي تلبست بالإسلام حالياً على الركلات الضعيفة التي تكيلها للجزار الإسرائيلي وهو يذبحها، ولا أستطيع أن أقف وأصفق لشعب يسعى لحتفه بظلفه ويغرق أكثر فأكثر في حلول أخروية وهمية عوضاً عن مواجهة تحديات الدنيا.
كم هو صعب وضعي، يا هل ترى أين يقف القارئ من ذلك ؟