لم أجد عنواناً لائقاً لهذا المقال أكثر من عنوان كتاب مايلز كوبلاند عن دور المخابرات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط في أواسط القرن العشرين، ولكن هذا المقال لا يتعرض لذلك، بل يتعرض لشخص ينتمي – رغما عن أنفه - لثلاث أمم في وقت واحد، هذا الشخص هو أنا.
أنا سوري ولدت بعد تسلم حزب البعث السلطة عام 1963، وبالتالي تم حقني من الصغر بالقومية العربية ذات الرسالة الخالدة في كل مكان: الشارع، المدرسة، التلفزيون، المكتبة .... باختصار في أي مكان إلا بيتي، حيث كانت عائلتي السورية القومية المتحمسة تربي أولادها على معرفة الأمة السورية وخصائصها الفريدة والهلال الخصيب ونجمته قبرص وضرورة استعادة مجد حضارتنا السورية الضاربة في أعماق التاريخ.
ثم امتد بي العمر إلى أن أضيفت أمة جديدة مؤخراً إلى القائمة هي الأمة الإسلامية التي أعطت العالم الحضارة والتي ما أن يعيد المسلمون التمسك بدينهم حتى ستتبوأ مكانها الطبيعي ليس كأمة بين الأمم المتقدمة مثل الأمتين السابقتين، بل كقائد ومخلص للبشرية جمعاء تحت رايات التوحيد الخفاقة.
أزمة الهوية هذه يعيشها كل سوري يرفض الاعتراف بحدود اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت الولايات العثمانية التي احتلتها انجلترا في الحرب العالمية الأولى، هذه الاتفاقية التي تعاملت مع المنطقة ككعكة تقسم بين المنتصرين دون أي اكتراث برغبات وتطلعات سكان المنطقة على الإطلاق.
أريد هنا أن أشارك القارئ السوري و"العربي" والإسلامي أفكاري حول هذه الأمم الوهمية، ثم أريد أن أقترح التركيز على أمة رابعة (وكأن الثلاثة لا تكفي)، الأمة التي أشعر بالانتماء إليها فعلاً.
أولاً – الأمة العربية: الأمة التي تمتد من موريتانيا غرباً إلى عربستان في إيران الحالية شرقاً، ومن الصومال جنوباً إلى كيليكية في تركيا الحالية شمالاً، دع جانباً جزر القمر التي لا أعرف موقعها على الخريطة إلا بالتقريب الشديد والتي لم تكن عربية في صغري !!!!!
هذه الأمة التي علموني أنها تشترك بلغة واحدة وتاريخ واحد وحضارة واحدة ومصير واحد وتطلعات واحدة، هذه الأمة التي مزقها الاستعمار الغاشم ووضع بين "أقطارها" الحدود المصطنعة كي يضعفها ويستغل ثرواتها ويجعلها سوقاً لتصريف منتجاته.
هذه الأمة التي تشكلت – حسب الإيديولوجيا البعثية - من "الهجرات العربية" المتتابعة التي خرجت من الجزيرة العربية، منهم "العرب السومريين" و"العرب الأشوريين" و"العرب الكلدانيين" و" العرب الفينيقيين" و"العرب الفراعنة" إلى آخر قائمة طويلة من العرب كونت في النهاية هذه الأمة المتماسكة التي نراها حالياً.
طبعاً لم تدخل هذه النظرية في التفاصيل التافهة مثل محاولة شرح لماذا كان البشر متركزين جميعاً في الجزيرة العربية بداية، لماذا تركوا الهلال الخصيب ووادي النيل فارغين واختاروا السكن في صحاري الجزيرة العربية الجرداء.
وفي حال لم تكن هذه المناطق خالية قبل "الهجرات العربية" ماذا حل بسكانها الأصليين؟، هل أبيدوا أو ذابوا في "الحضارة العربية"، هذه الحضارة التي لم توجد في أي يوم من الأيام في الجزيرة العربية، منشأ "الأمة" جمعاء.
وتناست النظرية أن اللغة العربية وهي الشيء المشترك الخاص الوحيد لهذه "الأمة" هي لهجة قريش، وأنها لم تكن موجودة قبل أن ينشرها الإسلام. وأن حضارة سورية الطبيعية ومصر ترجع إلى ألوف السنين قبل الإسلام واللغة العربية.
ولم تدخل أيضاً في شرح تفاصيل ثانوية مثل عدم وجود أي فترة من التاريخ سابقة أو لاحقة على الإمبراطورية الأموية التي دامت 89 عاماً فقط كانت غالبية – وليس كل - "أقطار" هذه الأمة متحدة في كيان سياسي واحد، ودعنا لا ننسى هنا أنه حتى هذه الإمبراطورية لم تكن عربية نقية، بل ضمت الأراضي الحالية لإيران وأفغانستان وباكستان وأجزاء من الهند.
ولم يتم أيضاً التطرق إلى أن هذه الإمبراطورية كانت مثلها مثل جميع الإمبراطوريات التي جمعت أجزاء كبيرة من "الوطن العربي" مثل الإمبراطورية الرومانية والعثمانية، كانت إمبراطورية فتح وإخضاع بالسيف والحديد والنار، وأن التمرد على السلطة المركزية لم ينقطع يوماً خلال فترة وجودها القصيرة حالما أحس أحد من الأقاليم بضعف السلطة المركزية وأنها تفككت على الفور تقريباً عند زوال السلطة المركزية القوية.
ولم تأخذ هذه النظرية في الحسبان أن هناك الكثير ممن لا تروق لهم فكرة العروبة من الأساس مثل الأكراد والسريان والآشوريين والأمازيغ وسكان جنوب السودان، الذي تحولهم العروبة إلى مواطنين من الدرجة الثانية في بلادهم بمصادرة ثقافتهم وتراثهم لحساب "التراث العربي".
القومية العربية كانت فكرة رائعة، تحمست لها بريطانيا وفرنسا كثيراً ودعمتها إلى النهاية لاستغلالها لتحطيم الإمبراطورية العثمانية التي كانت تستمد شرعيتها من الإسلام، وقد نجحت في ذلك أيما نجاح بدون شك. وبعد ذلك فقدتا اهتمامهما بها كأداة استنفذت الفائدة المرجوة منها. وقد تحمست لها لأقليات الدينية التي تعيش في سوريا كرعايا تحت حكم الإسلام للعروبة لتنتقل من ذمة الإسلام إلى المواطنة في دولة قومية لا ترتكز على الدين.
الوطن العربي في النهاية هو البلاد التي يوجد بها الإسلام واللغة العربية (التي هي بحد ذاتها ناتج من نواتج الإسلام) معاً، بدون وحدة جغرافية، أو وحدة مصالح أو تاريخ مشترك أو وعي مشترك أو رؤية مشتركة للمستقبل.
بالإمكان تحبير الصفحات في التنظير الإيديولوجي عن مكونات الأمة بلا نهاية بالطبع، التنظير عن مكونات الأمة وخصائصها في شعوب لم تتجاوز العشائرية والقبلية بعد، شعوب لا يزال فيها الحاكم إلهاً يعبد والانتماء الحقيقي للفرد فيها هو للقبيلة والعشيرة ثم الطائفة، ولكن في النهاية أثبتت هذه القومية خوائها بحيث انهارت بعد هزيمة الديكتاتوريات التي حملت لواءها وإيديولوجيتها أمام إسرائيل، وتبين أن الروابط "القوية والتاريخية والمصيرية" التي تجمع بين "أقطار" الأمة التي "جزأها الاستعمار البغيض" لم تفلح بعد أكثر مرور عشرات السنين من الوعي القومي في توحيد أي بلدين "عربيين" ما عدا اليمن السعيد الذي يحافظ على وحدته حتى الآن بالكاد وبالقوة وسط تمردات وثورات لم تنقطع عملياً من اللحظة الأولى للوحدة.
بل لم تفلح حتى في الحفاظ على وحدة الدول القائمة حالياً، فغالبية الدول الناطقة بالعربية تغلي في نزاعات طائفية وعرقية وعشائرية وقبلية ويحافظ على "المستقر" منها قمع أنظمتها فقط وليس أي قناعة أو وعي قومي لسكانها.
ثانياً – الأمة السورية: الأمة التي تضم أرضها كلا من الدول الحالية التالية: سوريا والعراق وفلسطين ولبنان والأردن والكويت وقبرص، بالإضافة إلى صحراء سيناء وكيليكية في جنوب تركيا وجزء من الصحراء السعودية وعربستان في غرب إيران.
يفترض أن أنطون سعادة اختار الحدود الطبيعية لبلاد الشام حدوداً لأمته السورية، جبال طوروس شمالاً وزاغروس شرقاً وحدود والصحراء جنوبا وحدود آسيا والبحر المتوسط غربا، أما قبرص فلعل قربها الجغرافي ساهم في جعلها نجمة الهلال السوري.
قد يبدو للوهلة الأولى أن الأمة السورية، كونها أقل مساحة وامتداداً بكثير من الأمة العربية، هي مشروع أكثر قابلية للتحقيق من الثانية، لكنها في الحقيقة لا تقل عنها خيالية.
لا أدري حقيقة من أين أتت لسعادة فكرة أن الحدود الجغرافية الطبيعية تترجم تلقائياً إلى حدود أمم، إذا قبلنا هذا الافتراض سنضطر إلى إعادة رسم خرائط العالم كلها، وذلك بالطبع بعد عدة مئات من السنين من الحروب اللازمة كي تقنع كل الدول الواقعة في منطقة جغرافية واحدة بالتوحد وتقنع بعد ذلك الدول الأخرى التي لها أراضي في مناطق جغرافية طبيعية تقع خارجها بالتخلي عن هذه المناطق لصالح "دولها الأصلية".
بإمكاني تخيل الدولة السورية الواحدة التي سأفرض جدلاً فقط أنها نجحت في توحيد سوريا وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والكويت، بإمكاني تخيلها وهي تطالب تركيا بالتخلي عن جنوبها وإيران بالتخلي عن غربها والسعودية عن شمالها ومصر عن صحراء سيناء، ثم تبعث المراسلات إلى القبارصة اليونان والأتراك تدعوهم فيها إلى التوحد معها على مبدأ أسلم تسلم !!!
ومن نافل القول أيضاً أن هذه الأصقاع لم تكن يوماً تحت حكم واحد مستقل، بل كانت دوماً أجزاء من إمبراطوريات وممالك متناحرة، وأنه لا شيء يجمع عملياً في الفكر وطريقة الحياة والأهداف بين مسيحيي لبنان وبدو الكويت ويونان قبرص وأكراد العراق وسنة سوريا وشيعة العراق إلخ...
بالنسبة لي شخصياً أفضل المشروع السوري عن المشروع العربي كونه يبتعد عن الدين الإسلامي كمكون أساسي للأمة، حيث أن العروبة هي ترجمة قومية للإسلام في الواقع، وكون القومية السورية تغرف من تاريخ حضاري عميق يتجاوز بكثير الغزوات والأشعار البدوية وقيم الصحراء القبلية التي حاولت العروبة تصويرها على أنها حضارتي وقيمي وتاريخي.
لكن هذا التفضيل العاطفي لا ينعكس على قناعة عقلية بإمكان تحقق مثل هذا المشروع، خاصة كونه يشترك مع المشروع العربي في فاشيته وعنصريته وتعصبه، بل ويتجاوزه في ذلك.
هو مشروع خيالي مثله مثل المشروع العربي تماماً، وفرقه الوحيد عنه هو أن الضباط المؤمنين به لم يقيض لهم اغتصاب السلطة مثل نظرائهم العروبيين واستخدام هذا المشروع مطية في سبيل الثراء والتربع بلا نهاية على كرسي الحكم، ولذلك يبقى لهذا المشروع بعض البريق الرومانسي في نفوس البعض كونه لم يتلوث بأوحال السلطة ولم يتجرع مذلة الهزائم التي مني بها العروبيون.
ثالثاً – الأمة الإسلامية: وهي بلا شك أكثر هذه الأمم غرابة، وهي تقوم على مبدأ بسيط جداً، هو أن الدين هو الهوية بكل بساطة، أي هي عملياً يتمركز مشروعها على إعادة عقارب الساعة 1400 سنة إلى الوراء إلى زمن غزوات الرسول وخلفاؤه المباشرين حيث كانت الدولة هي الدين، ثم بعد ذلك تجاهل كل ما حصل في الأربعة عشر قرناً اللاحقة !!!
حدود هذه الأمة غير واضحة المعالم حتى لمن يعتقد بها، فهي تمتد من أندونيسيا إلى البوسنة، ومن الصين إلى المغرب ومن نيجيريا إلى الشيشان، تتداخل بها عشرات الدول واللغات والألوان والأجناس والأعراق، ولا يوجد من يستطيع ضبطها على خريطة بعكس الأمتين السابقتين، فهل يجب يا ترى إعادة "فتح" الأندلس واليونان وبلغاريا ودول البلقان كونها كانت يوما تحت الحكم الإسلامي ؟ وهل تدخل فيها فرنسا حيث يعيش أكثر من ستة ملايين مسلم وحيث وصلت جيوش الإسلام إلى جنوبها يوما يا هل ترى؟
يتجاهل هذا الطرح الفوارق اللغوية والعرقية والثقافية والمصلحية والجغرافية والسياسية وكل شيء عملياً، ويتناسى أيضاً أن الإسلام هو مذاهب وشيع وطوائف يكفر بعضها البعض الآخر، ويتناسى وجود الأقليات غير المسلمة وأخيراً يتناسى هذا الطرح حقيقة بسيطة هي أنه بمجرد تفككك الدولة الأموية زالت عملياً الوحدة الإسلامية مرة وإلى الأبد وأن محاولة إحياءها هي بالضبط مثل محاولة إحياء مستحاثة.
الفكرة فيها من السخف ما يجعل مجرد الكتابة عنها أمراً محرجاً، ولكنها في عقول بعض المهووسين حقيقية لدرجة أن بعض الجزائريين مستعدين لتفجير أنفسهم في كشمير من أجلها !!! بل وبعض البريطانيين في أبناء بلدهم الذين يحملون جنسيته ويدينون بالولاء إلى أمة افتراضية موجودة في خيالهم فقط.
بالنسبة لي مناقشة الأمة الإسلامية بمعناها المتعارف عليه حالياً يماثل في سخفه محاولة مناقشة وجود الغول أو الإله أوزوريس بشكل جدي وإثبات عدم وجودهما !!
ولا يتبين كم هو سخيف تعبير "الأمة الإسلامية " إلا عند إنشاء أمم أخرى وهمية مثله: الأمة المسيحية والأمة البوذية والأمة الهندوسية مثلاً !!
ولكن التعبير يتردد باستمرار، وهناك كما أسلفت من ينظّر له ومن هو مستعد للتضحية بحياته لأجله ويمثلهم الآن التيار السلفي الوهابي الجهادي، وهم قلة نسبياً، ولكن هناك أغلبية تردده بشكل ببغائي دون أن تفكر لحظة في معناه ومدى واقعيته وتعتقد في وعيها الباطن أن الإسلام فعلاً هو أمة كما فرنسا أو أمريكا أمة !!
مع كل فاشيتهما وتعصبهما، تبدو الأمتان العربية والسورية جنتا الخلد بالمقارنة مع الأمة الإسلامية، فحل الأقليات "الكتابية" هو الجزية، وحل غيرها هو الترحيل أو القتل، وحل الشيعة الإبادة وحل أمثالي من العلمانيين معروف طبعاً وبالإمكان النظر للدول والمناطق التي تحكمها السلفية الإسلامية حالياً لمعرفة ما ينتظر أي شعب تسلمه الأقدار لهم.
أمام المشروع الإسلامي أنا عروبي أكثر من ساطع الحصري وقومي سوري أكثر من أنطون سعادة وشيوعي أكثر من لينين نفسه. فمع كل اعتراضاتي عليها، فعلى الأقل لا تدعو أي من هذه المشاريع إلى قتلي لأني لا أصلي ولا يدخل في مبادئها النظرية تصورات معينة عن طول لحيتي وقصة شعري !!!
الشيء المشترك بين الأمم الثلاث هو الدوغمائية أو الإيديولوجية، أي اعتماد تعريف كل منها على عقيدة غير قابلة للإثبات العلمي مثل الدين تماماً، ويكفيني لإثبات ذلك جمع ثلاثة أشخاص: بعثي وقومي سوري وإسلامي وتركهم يتناقشون حول مكونات الأمة، الدين أو اللغة أو السلالة أو الحدود الطبيعية أو غيرها أو أي مزيج مما سبق ثم انتظار أن يقنع أحد منهم الآخرين، ولا توجد ضرورة لعمل ذلك حقيقة فهذا "الحوار" يدور منذ عشرات السنين ونتيجته معروفة حالياً.
أنا شبه متأكد من أن معتنقي نظرية كل أمة من الأمم الثلاث يوافقني في أغلب انتقاداتي للاثنتين الباقيتين، ويستغرب من عدم وضوح ذلك لكل عاقل، ويستسهل بشكل كبير رؤية مكامن الضعف واللا منطق في تعريفهما، كما يستغرب المسيحي تصديق المسلم للناسخ والمنسوخ والإله الذي يغير رأيه مع تغير الظروف السياسية ويستغرب المسلم تصديق المسيحي للإله الذي يضحي بابنه الوحيد كي يفدي خطايا لم تحصل بعد !!
أهرقت أنهار من الحبر وقطعت آلاف الأشجار على الكتب التي تشرح لماذا بالضبط كل من هذه الأمم هي الأمة الصحيحة وكل ما عداها باطل، هل يذكركم هذا بشيء ؟ ألا تذكركم صعوبة مناقشة عروبي متحمس حول صحة حججه بصعوبة مناقشة مسيحي أو مسلم متحمس لدينه ؟
ولكن ما البديل ؟ من أنا وإلى من أنتمي وكيف تتشكل الأمم إذاً ؟ حقيقة أنني صعب الإرضاء فعلاً، قدموا لي ثلاثة أمم على طبق من ذهب ورفضتها جميعاً !!
كيف تتشكل الأمم إذا ؟ هذا هو السؤال، والجواب متنوع للغاية، هي مجموعة من العوامل منها الغزو العسكري ومنها التمدد الثقافي، ومنها المصالح الاقتصادية ومنها الوحدة الجغرافية ومنها الدين ومنها اللغة ومنها التطهير العرقي للأقوام الأخرى وغير ذلك، ويتفاوت مدى تأثير كل عامل أو مجموعة عوامل حسب المثال التاريخي المطروح.
يمكن لأي إيديولوجي أن يأتي بأمثلة لا حصر لها عن كل عامل أو مجموعة عوامل يعتقد أنها الأهم ويقويها على حساب البقية ثم يبني إيديولوجية متكاملة عليها والتنظير بعد ذلك بشكل رجعي مع الإتيان بأمثلة تاريخية ملائمة وإهمال الأمثلة الأخرى التي لا تتفق مع طروحاته.
والأمر برأيي يتعلق بخليط من كل هذا بالإضافة إلى عامل هام جداً هو الصدفة التاريخية المحضة، بإمكاني تصور أمماً أوروبية مختلفة تماماً عن الموجودة حالياً لو لم يهاجم هتلر الاتحاد السوفياتي وعقد صلحاً مع بريطانيا ولم يهزم، لو تابعنا ذلك المسار الخيالي للأمور أو أي مسار خيالي آخر مثل لو مات بيسمارك في طفولته أو لو لم يولد غاريبالدي أو لو ينتصر شمال أمريكا على جنوبها في الحرب الأهلية أو لم يولد النبي محمد أو أو أو، التاريخ تحركه صدف لا نهاية لها وهو فعلياً مسار معين من عدد لانهائي من المسارات المحتملة التي لا تقل احتمالاً ومنطقية عنه لكنها بكل ببساطة لم تحدث !!!!
برأيي أن السؤال المهم ليس هو العوامل التي تشكل الأمة، فلا يحسم هذا السؤال إلا التنظير الإيديولوجي الذي لا طائل من وراءه، السؤال المهم فعلاً في زمننا هو كيف تحافظ الأمم على تماسكها ؟
ما يجمع الأمم-الدول (nation-states) حالياً هو أحد أمرين:
1 – القناعة المشتركة بين الناس بانتمائهم لهذه الأمة (أمثلة: الأمة الأمريكية، الفرنسية، الألمانية، اليابانية وغيرها).
2 – القوة الغاشمة (أمثلة: العراق، تركيا، سوريا، يوغوسلافيا سابقاً، السودان، سابقاً وغيرها).
فإن تركنا الاحتمال الثاني كون الدول القائمة عليه غير مستقرة بشكل كبير وتنهار عادة عند زوال قبضة الحاكم الحديدية عنها، يظهر السؤال التالي وهو كيف يمكن أن نشكل هذه القناعة المشتركة ؟
وهنا أيضاً توجد طريقتان:
1 – التنظير الإيديولوجي: أو كتعبير مخفف، التثقيف ورفع الوعي القومي أو الوطني أو الديني، وهي طريقة يمكن أن تحقق بعض النجاح بلا شك وهي الطريقة المتبعة في خلق مؤمنين بالأمم الثلاث موضوع النقاش. لكن عيب هذه الطريقة القاتل هو ضعفها الشديد أمام الطريقة الثانية والأهم كثيراً: المصالح.
2 – المصالح الفعلية: أستطيع بكل ثقة أن أجزم أن أي قدر من التنظير الإيديولوجي (الإسلام ضمناً وأولاً) وأي كمية من البراهين والأبحاث العلمية والاجتماعية لن تكون كفيلة بإقناع الكويتي بالاتحاد مع العراق، والقبرصي والماروني اللبناني مع سوريا والإماراتي مع السعودية إلخ..، من يعتقد بإمكانية ذلك هو واهم كمن يحلم من يعتقد أنه بالإمكان إقناع إسرائيل بالمخاجلة أن ترجع فلسطين لأهلها.
يمكن في أحسن حالة أن يبيع الكويتي إلى العراقي كلاماً معسولاً حول "الأخوة العربية" و"التضامن العربي" وما إلى ذلك من تعابير جبر الخواطر ورفع العتب، هذا إذا أحس أنه ملزم بذلك أصلاً، فإن أصر العراقي فلن يعدم الكويتي من يجري له أبحاثاً علمية وتاريخية تثبت أن الكويت أمة وحضارة وهوية ولم تكن في يوم من الأيام جزءاً من العراق، أنا لا أمزح أو أبالغ، فقد رأيت بعيني أبحاث من هذا القبيل وإن كنت لم أحتفظ بها مع شديد الأسف لأشير إلى المصدر. ومثال الكويت والعراق يمكن تطبيقه على الكثير من الحالات الأخرى بتبديل الأسماء فقط.
أرجو ألا أكون أضعت القارئ في الكثير من التفاصيل التمهيدية، ولذلك سأرجع إلى نقطتي الأساسية:
الأمة الوحيدة الموجودة على أرض الواقع وأستطيع الانتماء لها فعلاً هي سوريا السياسية بحدودها الحالية، بالطبع ليست حدوداً طبيعية، فلم يكن يوجد فرق يذكر بين حوران السورية وشمال الأردن، ولا فرق بين دير الزور وغرب العراق ولا لطرطوس عن طرابلس وهكذا، الحدود الحالية ليست لها أي شرعية إلا شرعية الأمر الواقع بكل بساطة، الواقع الذي مر عليه تسعون عاماً حتى الآن، أي أكثر من عمر الإمبراطورية الأموية !!!
تسعون عاماً من الإدارة والحكم والأنظمة الاقتصادية والتعليم المختلف، وكل يوم يمر يزيد في الاختلاف أكثر فأكثر، لم تخلق هذه الأمة الطبيعة ولا اللغة ولا الدين، خلقها الواقع والصدفة التاريخية فحسب، وهي أكثر واقعية بكثير من الأمم الوهمية الإيديولوجية، فعلى الأقل يوجد لها حدود معترف بها وحكومة ومصالح حقيقية ونظام تعليم واحد والكثير الكثير مما يربطها ببعض.
ومع كل هذه الروابط الحقيقية المشتركة، فإن قسماً لا يستهان به من أفراد هذه الأمة الصغيرة مع الأسف لا يشعرون بالانتماء لها نهائياً، سواء من ناحية قومية أو من ناحية دينية، وقسم آخر كبير ولعله الأغلبية يقدم انتماءات العائلة والقبيلة والعشيرة والطائفة بمراحل على الانتماء الوطني، وقسم آخر أكبر يرى أن غيره من مكونات هذه الأمة هو دخيل عليها وأنه هو فقط من ينتمي إليها وهكذا.
ليست هناك ضرورة لكي آتي بأمثلة، فكل من يعيش في سوريا يعرف بالضبط عن من وماذا أتكلم، وهذه هي النقطة التي أريد أن أصل إليها:
من المضحك التكلم عن والدعوة إلى أمم إيديولوجية كبيرة يمكن أن تتحقق ويمكن ألا تتحقق بين شعب لم يصل أصلاً إلى مرحلة الوعي الوطني أولاً.
سوريا الحالية معرضة جدياً للتفكك مثل العراق عند أول تحدي جدي يواجهها، ما انهار عام 2003 ليس هو نظام صدام، ما انهار هو العراق نفسه حيث عادت الساعة فيه فعلياً إلى زمن العشيرة والقبيلة والطائفة وحكم رجال الدين وممالك المدن وأمراء الحرب. وبكل أسف فأن أوجه الشبه بين وضع سوريا ووضع العراق سابقاً أكثر من أوجه الاختلاف.
التكلم عن أي من الأمم الإيديولوجية يضعف ولا يقوي الانتماء الوطني للسوريين ويزرع بذور الفرقة بينهم، فإن تكلمت عن العروبة أقصيت الأكراد والشركس والأرمن، وإن تكلمت عن الإسلام أقصيت كل الطوائف الأخرى، لعل القومية السورية، مع تقليل جرعة الفاشية والعنصرية فيها هي أفضل الثلاثة في حال تحققت، لكن حتى لو كانت قابلة للتحقيق وكنا نريد تحقيقها فعلاً، فعلينا البدء أولاً في بناء وعي وطني محلي حتى لا نقع في سخافة من يريد أخذ شهادة جامعية ولكنه يريد حرق المراحل ولا يريد إضاعة وقته في الدراسة الإعدادية والثانوية أولاً.
سيقول العروبي والسوري القومي أيضاً بالطبع أنهم مع التوعية الوطنية داخل سوريا قبل الحديث عن المشاريع الكبرى، واختلافي معهم هو التالي: لنفرض جدلاً أننا حققنا الوحدة الوطنية الفعلية، وبنينا اقتصادا متطوراً ومؤسسات إلى آخره وأصبحت سوريا قبلة للاستثمارات وانتقلنا إلى مصاف الدول المتقدمة، وبقيت الأردن على فقرها بل وازدادت فقراً، ثم أبدت تركيا رغبتها في تقوية العلاقات معنا كما هي تريد تقوية العلاقات مع الاتحاد الأوروبي حالياً، وكونه يربطنا تاريخ مشترك طويل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك فكانت هناك رغبة تركية في الاتحاد مع سوريا، هل أترك ذلك وأقول أن إيديولوجيتي تقول أن تركيا أمة أخرى غير أمتي ؟ بينما أقبل طلب الأردن العربية الفقيرة كي تغرقني بعمالتها غير الماهرة وتسحب مواردي لتنمية وتطوير حالها ؟
هل هذا إغراق في الخيال ؟ ربما، ولكني أريد أن أسأل أي سوري، يا هل ترى يرفض فعلاً مثل هذا الاتحاد مهما كانت الظروف لصالح إيديولوجيته ؟ وإذا أجاب بأنه يرفضه عليه أن يسأل نفسه، لماذا يا هل ترى يرفض العرب الخليجيين إدخال اليمن في مجلسهم ؟
ما أريد أن أؤكد عليه أن المصالح أهم بكثير من الإيديولوجيات، وأن التنظير عن القومية يصبح هراء خاوياً عند أول امتحان حقيقي مع مصالح الناس وأنه من الأفضل تناسي الأراضي السليبة في تركيا وإيران والملك الضائع هنا وهناك والنبش في كتب التاريخ عن حدود سابقة لممالك اندثرت الآن والمطالبة بها، من الأفضل تناسي كل ذلك والتركيز على تثبيت ما هو موجود على أرض الواقع.
وعندما نصل إلى مرحلة من التقدم والرفاه تزيد عما هو موجود حولنا فسيأتي جيراننا من تلقاء أنفسهم وبدون أي جهد تنظيري من قبلنا ليطلبوا الاتحاد معنا، بل أكثر من ذلك، سيظهر بينهم منظرون يؤكدون على قوة العلاقة بيننا وبينهم وجذورها الضاربة في أعماق التاريخ!!
علينا فقط النظر لمحاولات تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي لمعرفة ما أعني، ليس فقط سيطلبون الاتحاد معنا، بل سيمكننا فرض شروطنا والتبطر عليهم أيضاً كما يفعل الأوروبيون مع تركيا الآن.
يبقى في النهاية الاعتراضات:
أولاً - الاعتراض الشهير: لن يسمح لنا الاستعمار ولن تتركنا إسرائيل في حالنا وستبقى القوى الخفية التي تحكم العالم تحيك المؤامرات علينا ما لم نتوحد أولاً، سمعتها مائة مرة، هذه الاعتراضات نابعة من عصاب متأصل في الإنسان السوري نظراً للحشو الإيديولوجي الطويل الذي تعرض له، هذا العصاب يهيئ له أن العالم والغرب خصوصاً بطوله وعرضه متفرغ تماماً ولا هم ولا عمل له إلا حياكة المؤامرات كي يبقينا متخلفين خوفا من تسيدنا العالم في حال تطورنا، والتصور الأكثر قرباً للتفكير الجمعي السوري هو أن إسرائيل بالذات لن تسمح بقيام قوة بجانبها وستفشل أي محاولة تبذل في هذا المجال.
أما عن المؤامرات العالمية فهي أتفه من أن يرد عليها، على من يتكلم بهذا المنطق أن يفسر لماذا سمح الغرب الشرير للصين وكوريا وماليزيا وسنغافورا وغيرها كثيراً بالانتقال من العالم الثالث إلى مصاف الدول المتقدمة ثم ضاقت عينه فقط عندما يصل الدور على سوريا.
أما عن إسرائيل فهي الشماعة التي نعلق عليها فشلنا والحجة الأفضل لتقصيرنا، تنبع حجة إسرائيل من افتراض أن الإسرائيليين هم صنف خاص من البشر لا تنطبق عليهم قوانين الطبيعة، وبالتالي لا يهنأ لهم عيش إلا في الدخول في حروب بلا نهاية لها، وأنه لا مصلحة لهم في الحياة في منطقة آمنة ومستقرة وثرية اقتصادياً واجتماعياً وأنهم يفضلون الحياة في قلعة محصنة تسبح في بحر من الكراهية وقضاء أعمارهم في الجيش والاحتياط.
ثانياً – اعتراض أننا لا يمكن أن نتقدم وحدنا، فنحن أمة صغيرة والعالم الآن تتنازعه الحيتان الكبار، موافق مع بعض التحفظات، فبعض الأمم الصغيرة أبلى بلاء حسناً، ولكن لا بأس ففي الاتحاد قوة، ولكني أقول فقط: دعوا الإيديولوجيا والتنظير وانظروا للمصالح فهي أساس كل شيء.
أريد في النهاية أن أقول أنه لو حصلت معجزة ما وتوحدت الأمة العربية أو السورية فلن أحزن، بل سأكون أول المصفقين والمؤيدين، وأنه ليس عندي أي مانع في حصول تقارب بين الدول السورية أو العربية على الإطلاق بل أشجعه بشدة، كل ما أدعو إليه هو ترك أوهام الماضي وأحلام العصافير والتركيز على ما لدينا فعلا، عندما نبني بيتنا الصغير الذي ورثناه دون أن يكون لنا يد في ذلك نستطيع البدء منه لبناء بيت كبير نفاخر فيه الأمم في مستقبل الأيام.
أنا سوري ولدت بعد تسلم حزب البعث السلطة عام 1963، وبالتالي تم حقني من الصغر بالقومية العربية ذات الرسالة الخالدة في كل مكان: الشارع، المدرسة، التلفزيون، المكتبة .... باختصار في أي مكان إلا بيتي، حيث كانت عائلتي السورية القومية المتحمسة تربي أولادها على معرفة الأمة السورية وخصائصها الفريدة والهلال الخصيب ونجمته قبرص وضرورة استعادة مجد حضارتنا السورية الضاربة في أعماق التاريخ.
ثم امتد بي العمر إلى أن أضيفت أمة جديدة مؤخراً إلى القائمة هي الأمة الإسلامية التي أعطت العالم الحضارة والتي ما أن يعيد المسلمون التمسك بدينهم حتى ستتبوأ مكانها الطبيعي ليس كأمة بين الأمم المتقدمة مثل الأمتين السابقتين، بل كقائد ومخلص للبشرية جمعاء تحت رايات التوحيد الخفاقة.
أزمة الهوية هذه يعيشها كل سوري يرفض الاعتراف بحدود اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت الولايات العثمانية التي احتلتها انجلترا في الحرب العالمية الأولى، هذه الاتفاقية التي تعاملت مع المنطقة ككعكة تقسم بين المنتصرين دون أي اكتراث برغبات وتطلعات سكان المنطقة على الإطلاق.
أريد هنا أن أشارك القارئ السوري و"العربي" والإسلامي أفكاري حول هذه الأمم الوهمية، ثم أريد أن أقترح التركيز على أمة رابعة (وكأن الثلاثة لا تكفي)، الأمة التي أشعر بالانتماء إليها فعلاً.
أولاً – الأمة العربية: الأمة التي تمتد من موريتانيا غرباً إلى عربستان في إيران الحالية شرقاً، ومن الصومال جنوباً إلى كيليكية في تركيا الحالية شمالاً، دع جانباً جزر القمر التي لا أعرف موقعها على الخريطة إلا بالتقريب الشديد والتي لم تكن عربية في صغري !!!!!
هذه الأمة التي علموني أنها تشترك بلغة واحدة وتاريخ واحد وحضارة واحدة ومصير واحد وتطلعات واحدة، هذه الأمة التي مزقها الاستعمار الغاشم ووضع بين "أقطارها" الحدود المصطنعة كي يضعفها ويستغل ثرواتها ويجعلها سوقاً لتصريف منتجاته.
هذه الأمة التي تشكلت – حسب الإيديولوجيا البعثية - من "الهجرات العربية" المتتابعة التي خرجت من الجزيرة العربية، منهم "العرب السومريين" و"العرب الأشوريين" و"العرب الكلدانيين" و" العرب الفينيقيين" و"العرب الفراعنة" إلى آخر قائمة طويلة من العرب كونت في النهاية هذه الأمة المتماسكة التي نراها حالياً.
طبعاً لم تدخل هذه النظرية في التفاصيل التافهة مثل محاولة شرح لماذا كان البشر متركزين جميعاً في الجزيرة العربية بداية، لماذا تركوا الهلال الخصيب ووادي النيل فارغين واختاروا السكن في صحاري الجزيرة العربية الجرداء.
وفي حال لم تكن هذه المناطق خالية قبل "الهجرات العربية" ماذا حل بسكانها الأصليين؟، هل أبيدوا أو ذابوا في "الحضارة العربية"، هذه الحضارة التي لم توجد في أي يوم من الأيام في الجزيرة العربية، منشأ "الأمة" جمعاء.
وتناست النظرية أن اللغة العربية وهي الشيء المشترك الخاص الوحيد لهذه "الأمة" هي لهجة قريش، وأنها لم تكن موجودة قبل أن ينشرها الإسلام. وأن حضارة سورية الطبيعية ومصر ترجع إلى ألوف السنين قبل الإسلام واللغة العربية.
ولم تدخل أيضاً في شرح تفاصيل ثانوية مثل عدم وجود أي فترة من التاريخ سابقة أو لاحقة على الإمبراطورية الأموية التي دامت 89 عاماً فقط كانت غالبية – وليس كل - "أقطار" هذه الأمة متحدة في كيان سياسي واحد، ودعنا لا ننسى هنا أنه حتى هذه الإمبراطورية لم تكن عربية نقية، بل ضمت الأراضي الحالية لإيران وأفغانستان وباكستان وأجزاء من الهند.
ولم يتم أيضاً التطرق إلى أن هذه الإمبراطورية كانت مثلها مثل جميع الإمبراطوريات التي جمعت أجزاء كبيرة من "الوطن العربي" مثل الإمبراطورية الرومانية والعثمانية، كانت إمبراطورية فتح وإخضاع بالسيف والحديد والنار، وأن التمرد على السلطة المركزية لم ينقطع يوماً خلال فترة وجودها القصيرة حالما أحس أحد من الأقاليم بضعف السلطة المركزية وأنها تفككت على الفور تقريباً عند زوال السلطة المركزية القوية.
ولم تأخذ هذه النظرية في الحسبان أن هناك الكثير ممن لا تروق لهم فكرة العروبة من الأساس مثل الأكراد والسريان والآشوريين والأمازيغ وسكان جنوب السودان، الذي تحولهم العروبة إلى مواطنين من الدرجة الثانية في بلادهم بمصادرة ثقافتهم وتراثهم لحساب "التراث العربي".
القومية العربية كانت فكرة رائعة، تحمست لها بريطانيا وفرنسا كثيراً ودعمتها إلى النهاية لاستغلالها لتحطيم الإمبراطورية العثمانية التي كانت تستمد شرعيتها من الإسلام، وقد نجحت في ذلك أيما نجاح بدون شك. وبعد ذلك فقدتا اهتمامهما بها كأداة استنفذت الفائدة المرجوة منها. وقد تحمست لها لأقليات الدينية التي تعيش في سوريا كرعايا تحت حكم الإسلام للعروبة لتنتقل من ذمة الإسلام إلى المواطنة في دولة قومية لا ترتكز على الدين.
الوطن العربي في النهاية هو البلاد التي يوجد بها الإسلام واللغة العربية (التي هي بحد ذاتها ناتج من نواتج الإسلام) معاً، بدون وحدة جغرافية، أو وحدة مصالح أو تاريخ مشترك أو وعي مشترك أو رؤية مشتركة للمستقبل.
بالإمكان تحبير الصفحات في التنظير الإيديولوجي عن مكونات الأمة بلا نهاية بالطبع، التنظير عن مكونات الأمة وخصائصها في شعوب لم تتجاوز العشائرية والقبلية بعد، شعوب لا يزال فيها الحاكم إلهاً يعبد والانتماء الحقيقي للفرد فيها هو للقبيلة والعشيرة ثم الطائفة، ولكن في النهاية أثبتت هذه القومية خوائها بحيث انهارت بعد هزيمة الديكتاتوريات التي حملت لواءها وإيديولوجيتها أمام إسرائيل، وتبين أن الروابط "القوية والتاريخية والمصيرية" التي تجمع بين "أقطار" الأمة التي "جزأها الاستعمار البغيض" لم تفلح بعد أكثر مرور عشرات السنين من الوعي القومي في توحيد أي بلدين "عربيين" ما عدا اليمن السعيد الذي يحافظ على وحدته حتى الآن بالكاد وبالقوة وسط تمردات وثورات لم تنقطع عملياً من اللحظة الأولى للوحدة.
بل لم تفلح حتى في الحفاظ على وحدة الدول القائمة حالياً، فغالبية الدول الناطقة بالعربية تغلي في نزاعات طائفية وعرقية وعشائرية وقبلية ويحافظ على "المستقر" منها قمع أنظمتها فقط وليس أي قناعة أو وعي قومي لسكانها.
ثانياً – الأمة السورية: الأمة التي تضم أرضها كلا من الدول الحالية التالية: سوريا والعراق وفلسطين ولبنان والأردن والكويت وقبرص، بالإضافة إلى صحراء سيناء وكيليكية في جنوب تركيا وجزء من الصحراء السعودية وعربستان في غرب إيران.
يفترض أن أنطون سعادة اختار الحدود الطبيعية لبلاد الشام حدوداً لأمته السورية، جبال طوروس شمالاً وزاغروس شرقاً وحدود والصحراء جنوبا وحدود آسيا والبحر المتوسط غربا، أما قبرص فلعل قربها الجغرافي ساهم في جعلها نجمة الهلال السوري.
قد يبدو للوهلة الأولى أن الأمة السورية، كونها أقل مساحة وامتداداً بكثير من الأمة العربية، هي مشروع أكثر قابلية للتحقيق من الثانية، لكنها في الحقيقة لا تقل عنها خيالية.
لا أدري حقيقة من أين أتت لسعادة فكرة أن الحدود الجغرافية الطبيعية تترجم تلقائياً إلى حدود أمم، إذا قبلنا هذا الافتراض سنضطر إلى إعادة رسم خرائط العالم كلها، وذلك بالطبع بعد عدة مئات من السنين من الحروب اللازمة كي تقنع كل الدول الواقعة في منطقة جغرافية واحدة بالتوحد وتقنع بعد ذلك الدول الأخرى التي لها أراضي في مناطق جغرافية طبيعية تقع خارجها بالتخلي عن هذه المناطق لصالح "دولها الأصلية".
بإمكاني تخيل الدولة السورية الواحدة التي سأفرض جدلاً فقط أنها نجحت في توحيد سوريا وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والكويت، بإمكاني تخيلها وهي تطالب تركيا بالتخلي عن جنوبها وإيران بالتخلي عن غربها والسعودية عن شمالها ومصر عن صحراء سيناء، ثم تبعث المراسلات إلى القبارصة اليونان والأتراك تدعوهم فيها إلى التوحد معها على مبدأ أسلم تسلم !!!
ومن نافل القول أيضاً أن هذه الأصقاع لم تكن يوماً تحت حكم واحد مستقل، بل كانت دوماً أجزاء من إمبراطوريات وممالك متناحرة، وأنه لا شيء يجمع عملياً في الفكر وطريقة الحياة والأهداف بين مسيحيي لبنان وبدو الكويت ويونان قبرص وأكراد العراق وسنة سوريا وشيعة العراق إلخ...
بالنسبة لي شخصياً أفضل المشروع السوري عن المشروع العربي كونه يبتعد عن الدين الإسلامي كمكون أساسي للأمة، حيث أن العروبة هي ترجمة قومية للإسلام في الواقع، وكون القومية السورية تغرف من تاريخ حضاري عميق يتجاوز بكثير الغزوات والأشعار البدوية وقيم الصحراء القبلية التي حاولت العروبة تصويرها على أنها حضارتي وقيمي وتاريخي.
لكن هذا التفضيل العاطفي لا ينعكس على قناعة عقلية بإمكان تحقق مثل هذا المشروع، خاصة كونه يشترك مع المشروع العربي في فاشيته وعنصريته وتعصبه، بل ويتجاوزه في ذلك.
هو مشروع خيالي مثله مثل المشروع العربي تماماً، وفرقه الوحيد عنه هو أن الضباط المؤمنين به لم يقيض لهم اغتصاب السلطة مثل نظرائهم العروبيين واستخدام هذا المشروع مطية في سبيل الثراء والتربع بلا نهاية على كرسي الحكم، ولذلك يبقى لهذا المشروع بعض البريق الرومانسي في نفوس البعض كونه لم يتلوث بأوحال السلطة ولم يتجرع مذلة الهزائم التي مني بها العروبيون.
ثالثاً – الأمة الإسلامية: وهي بلا شك أكثر هذه الأمم غرابة، وهي تقوم على مبدأ بسيط جداً، هو أن الدين هو الهوية بكل بساطة، أي هي عملياً يتمركز مشروعها على إعادة عقارب الساعة 1400 سنة إلى الوراء إلى زمن غزوات الرسول وخلفاؤه المباشرين حيث كانت الدولة هي الدين، ثم بعد ذلك تجاهل كل ما حصل في الأربعة عشر قرناً اللاحقة !!!
حدود هذه الأمة غير واضحة المعالم حتى لمن يعتقد بها، فهي تمتد من أندونيسيا إلى البوسنة، ومن الصين إلى المغرب ومن نيجيريا إلى الشيشان، تتداخل بها عشرات الدول واللغات والألوان والأجناس والأعراق، ولا يوجد من يستطيع ضبطها على خريطة بعكس الأمتين السابقتين، فهل يجب يا ترى إعادة "فتح" الأندلس واليونان وبلغاريا ودول البلقان كونها كانت يوما تحت الحكم الإسلامي ؟ وهل تدخل فيها فرنسا حيث يعيش أكثر من ستة ملايين مسلم وحيث وصلت جيوش الإسلام إلى جنوبها يوما يا هل ترى؟
يتجاهل هذا الطرح الفوارق اللغوية والعرقية والثقافية والمصلحية والجغرافية والسياسية وكل شيء عملياً، ويتناسى أيضاً أن الإسلام هو مذاهب وشيع وطوائف يكفر بعضها البعض الآخر، ويتناسى وجود الأقليات غير المسلمة وأخيراً يتناسى هذا الطرح حقيقة بسيطة هي أنه بمجرد تفككك الدولة الأموية زالت عملياً الوحدة الإسلامية مرة وإلى الأبد وأن محاولة إحياءها هي بالضبط مثل محاولة إحياء مستحاثة.
الفكرة فيها من السخف ما يجعل مجرد الكتابة عنها أمراً محرجاً، ولكنها في عقول بعض المهووسين حقيقية لدرجة أن بعض الجزائريين مستعدين لتفجير أنفسهم في كشمير من أجلها !!! بل وبعض البريطانيين في أبناء بلدهم الذين يحملون جنسيته ويدينون بالولاء إلى أمة افتراضية موجودة في خيالهم فقط.
بالنسبة لي مناقشة الأمة الإسلامية بمعناها المتعارف عليه حالياً يماثل في سخفه محاولة مناقشة وجود الغول أو الإله أوزوريس بشكل جدي وإثبات عدم وجودهما !!
ولا يتبين كم هو سخيف تعبير "الأمة الإسلامية " إلا عند إنشاء أمم أخرى وهمية مثله: الأمة المسيحية والأمة البوذية والأمة الهندوسية مثلاً !!
ولكن التعبير يتردد باستمرار، وهناك كما أسلفت من ينظّر له ومن هو مستعد للتضحية بحياته لأجله ويمثلهم الآن التيار السلفي الوهابي الجهادي، وهم قلة نسبياً، ولكن هناك أغلبية تردده بشكل ببغائي دون أن تفكر لحظة في معناه ومدى واقعيته وتعتقد في وعيها الباطن أن الإسلام فعلاً هو أمة كما فرنسا أو أمريكا أمة !!
مع كل فاشيتهما وتعصبهما، تبدو الأمتان العربية والسورية جنتا الخلد بالمقارنة مع الأمة الإسلامية، فحل الأقليات "الكتابية" هو الجزية، وحل غيرها هو الترحيل أو القتل، وحل الشيعة الإبادة وحل أمثالي من العلمانيين معروف طبعاً وبالإمكان النظر للدول والمناطق التي تحكمها السلفية الإسلامية حالياً لمعرفة ما ينتظر أي شعب تسلمه الأقدار لهم.
أمام المشروع الإسلامي أنا عروبي أكثر من ساطع الحصري وقومي سوري أكثر من أنطون سعادة وشيوعي أكثر من لينين نفسه. فمع كل اعتراضاتي عليها، فعلى الأقل لا تدعو أي من هذه المشاريع إلى قتلي لأني لا أصلي ولا يدخل في مبادئها النظرية تصورات معينة عن طول لحيتي وقصة شعري !!!
الشيء المشترك بين الأمم الثلاث هو الدوغمائية أو الإيديولوجية، أي اعتماد تعريف كل منها على عقيدة غير قابلة للإثبات العلمي مثل الدين تماماً، ويكفيني لإثبات ذلك جمع ثلاثة أشخاص: بعثي وقومي سوري وإسلامي وتركهم يتناقشون حول مكونات الأمة، الدين أو اللغة أو السلالة أو الحدود الطبيعية أو غيرها أو أي مزيج مما سبق ثم انتظار أن يقنع أحد منهم الآخرين، ولا توجد ضرورة لعمل ذلك حقيقة فهذا "الحوار" يدور منذ عشرات السنين ونتيجته معروفة حالياً.
أنا شبه متأكد من أن معتنقي نظرية كل أمة من الأمم الثلاث يوافقني في أغلب انتقاداتي للاثنتين الباقيتين، ويستغرب من عدم وضوح ذلك لكل عاقل، ويستسهل بشكل كبير رؤية مكامن الضعف واللا منطق في تعريفهما، كما يستغرب المسيحي تصديق المسلم للناسخ والمنسوخ والإله الذي يغير رأيه مع تغير الظروف السياسية ويستغرب المسلم تصديق المسيحي للإله الذي يضحي بابنه الوحيد كي يفدي خطايا لم تحصل بعد !!
أهرقت أنهار من الحبر وقطعت آلاف الأشجار على الكتب التي تشرح لماذا بالضبط كل من هذه الأمم هي الأمة الصحيحة وكل ما عداها باطل، هل يذكركم هذا بشيء ؟ ألا تذكركم صعوبة مناقشة عروبي متحمس حول صحة حججه بصعوبة مناقشة مسيحي أو مسلم متحمس لدينه ؟
ولكن ما البديل ؟ من أنا وإلى من أنتمي وكيف تتشكل الأمم إذاً ؟ حقيقة أنني صعب الإرضاء فعلاً، قدموا لي ثلاثة أمم على طبق من ذهب ورفضتها جميعاً !!
كيف تتشكل الأمم إذا ؟ هذا هو السؤال، والجواب متنوع للغاية، هي مجموعة من العوامل منها الغزو العسكري ومنها التمدد الثقافي، ومنها المصالح الاقتصادية ومنها الوحدة الجغرافية ومنها الدين ومنها اللغة ومنها التطهير العرقي للأقوام الأخرى وغير ذلك، ويتفاوت مدى تأثير كل عامل أو مجموعة عوامل حسب المثال التاريخي المطروح.
يمكن لأي إيديولوجي أن يأتي بأمثلة لا حصر لها عن كل عامل أو مجموعة عوامل يعتقد أنها الأهم ويقويها على حساب البقية ثم يبني إيديولوجية متكاملة عليها والتنظير بعد ذلك بشكل رجعي مع الإتيان بأمثلة تاريخية ملائمة وإهمال الأمثلة الأخرى التي لا تتفق مع طروحاته.
والأمر برأيي يتعلق بخليط من كل هذا بالإضافة إلى عامل هام جداً هو الصدفة التاريخية المحضة، بإمكاني تصور أمماً أوروبية مختلفة تماماً عن الموجودة حالياً لو لم يهاجم هتلر الاتحاد السوفياتي وعقد صلحاً مع بريطانيا ولم يهزم، لو تابعنا ذلك المسار الخيالي للأمور أو أي مسار خيالي آخر مثل لو مات بيسمارك في طفولته أو لو لم يولد غاريبالدي أو لو ينتصر شمال أمريكا على جنوبها في الحرب الأهلية أو لم يولد النبي محمد أو أو أو، التاريخ تحركه صدف لا نهاية لها وهو فعلياً مسار معين من عدد لانهائي من المسارات المحتملة التي لا تقل احتمالاً ومنطقية عنه لكنها بكل ببساطة لم تحدث !!!!
برأيي أن السؤال المهم ليس هو العوامل التي تشكل الأمة، فلا يحسم هذا السؤال إلا التنظير الإيديولوجي الذي لا طائل من وراءه، السؤال المهم فعلاً في زمننا هو كيف تحافظ الأمم على تماسكها ؟
ما يجمع الأمم-الدول (nation-states) حالياً هو أحد أمرين:
1 – القناعة المشتركة بين الناس بانتمائهم لهذه الأمة (أمثلة: الأمة الأمريكية، الفرنسية، الألمانية، اليابانية وغيرها).
2 – القوة الغاشمة (أمثلة: العراق، تركيا، سوريا، يوغوسلافيا سابقاً، السودان، سابقاً وغيرها).
فإن تركنا الاحتمال الثاني كون الدول القائمة عليه غير مستقرة بشكل كبير وتنهار عادة عند زوال قبضة الحاكم الحديدية عنها، يظهر السؤال التالي وهو كيف يمكن أن نشكل هذه القناعة المشتركة ؟
وهنا أيضاً توجد طريقتان:
1 – التنظير الإيديولوجي: أو كتعبير مخفف، التثقيف ورفع الوعي القومي أو الوطني أو الديني، وهي طريقة يمكن أن تحقق بعض النجاح بلا شك وهي الطريقة المتبعة في خلق مؤمنين بالأمم الثلاث موضوع النقاش. لكن عيب هذه الطريقة القاتل هو ضعفها الشديد أمام الطريقة الثانية والأهم كثيراً: المصالح.
2 – المصالح الفعلية: أستطيع بكل ثقة أن أجزم أن أي قدر من التنظير الإيديولوجي (الإسلام ضمناً وأولاً) وأي كمية من البراهين والأبحاث العلمية والاجتماعية لن تكون كفيلة بإقناع الكويتي بالاتحاد مع العراق، والقبرصي والماروني اللبناني مع سوريا والإماراتي مع السعودية إلخ..، من يعتقد بإمكانية ذلك هو واهم كمن يحلم من يعتقد أنه بالإمكان إقناع إسرائيل بالمخاجلة أن ترجع فلسطين لأهلها.
يمكن في أحسن حالة أن يبيع الكويتي إلى العراقي كلاماً معسولاً حول "الأخوة العربية" و"التضامن العربي" وما إلى ذلك من تعابير جبر الخواطر ورفع العتب، هذا إذا أحس أنه ملزم بذلك أصلاً، فإن أصر العراقي فلن يعدم الكويتي من يجري له أبحاثاً علمية وتاريخية تثبت أن الكويت أمة وحضارة وهوية ولم تكن في يوم من الأيام جزءاً من العراق، أنا لا أمزح أو أبالغ، فقد رأيت بعيني أبحاث من هذا القبيل وإن كنت لم أحتفظ بها مع شديد الأسف لأشير إلى المصدر. ومثال الكويت والعراق يمكن تطبيقه على الكثير من الحالات الأخرى بتبديل الأسماء فقط.
أرجو ألا أكون أضعت القارئ في الكثير من التفاصيل التمهيدية، ولذلك سأرجع إلى نقطتي الأساسية:
الأمة الوحيدة الموجودة على أرض الواقع وأستطيع الانتماء لها فعلاً هي سوريا السياسية بحدودها الحالية، بالطبع ليست حدوداً طبيعية، فلم يكن يوجد فرق يذكر بين حوران السورية وشمال الأردن، ولا فرق بين دير الزور وغرب العراق ولا لطرطوس عن طرابلس وهكذا، الحدود الحالية ليست لها أي شرعية إلا شرعية الأمر الواقع بكل بساطة، الواقع الذي مر عليه تسعون عاماً حتى الآن، أي أكثر من عمر الإمبراطورية الأموية !!!
تسعون عاماً من الإدارة والحكم والأنظمة الاقتصادية والتعليم المختلف، وكل يوم يمر يزيد في الاختلاف أكثر فأكثر، لم تخلق هذه الأمة الطبيعة ولا اللغة ولا الدين، خلقها الواقع والصدفة التاريخية فحسب، وهي أكثر واقعية بكثير من الأمم الوهمية الإيديولوجية، فعلى الأقل يوجد لها حدود معترف بها وحكومة ومصالح حقيقية ونظام تعليم واحد والكثير الكثير مما يربطها ببعض.
ومع كل هذه الروابط الحقيقية المشتركة، فإن قسماً لا يستهان به من أفراد هذه الأمة الصغيرة مع الأسف لا يشعرون بالانتماء لها نهائياً، سواء من ناحية قومية أو من ناحية دينية، وقسم آخر كبير ولعله الأغلبية يقدم انتماءات العائلة والقبيلة والعشيرة والطائفة بمراحل على الانتماء الوطني، وقسم آخر أكبر يرى أن غيره من مكونات هذه الأمة هو دخيل عليها وأنه هو فقط من ينتمي إليها وهكذا.
ليست هناك ضرورة لكي آتي بأمثلة، فكل من يعيش في سوريا يعرف بالضبط عن من وماذا أتكلم، وهذه هي النقطة التي أريد أن أصل إليها:
من المضحك التكلم عن والدعوة إلى أمم إيديولوجية كبيرة يمكن أن تتحقق ويمكن ألا تتحقق بين شعب لم يصل أصلاً إلى مرحلة الوعي الوطني أولاً.
سوريا الحالية معرضة جدياً للتفكك مثل العراق عند أول تحدي جدي يواجهها، ما انهار عام 2003 ليس هو نظام صدام، ما انهار هو العراق نفسه حيث عادت الساعة فيه فعلياً إلى زمن العشيرة والقبيلة والطائفة وحكم رجال الدين وممالك المدن وأمراء الحرب. وبكل أسف فأن أوجه الشبه بين وضع سوريا ووضع العراق سابقاً أكثر من أوجه الاختلاف.
التكلم عن أي من الأمم الإيديولوجية يضعف ولا يقوي الانتماء الوطني للسوريين ويزرع بذور الفرقة بينهم، فإن تكلمت عن العروبة أقصيت الأكراد والشركس والأرمن، وإن تكلمت عن الإسلام أقصيت كل الطوائف الأخرى، لعل القومية السورية، مع تقليل جرعة الفاشية والعنصرية فيها هي أفضل الثلاثة في حال تحققت، لكن حتى لو كانت قابلة للتحقيق وكنا نريد تحقيقها فعلاً، فعلينا البدء أولاً في بناء وعي وطني محلي حتى لا نقع في سخافة من يريد أخذ شهادة جامعية ولكنه يريد حرق المراحل ولا يريد إضاعة وقته في الدراسة الإعدادية والثانوية أولاً.
سيقول العروبي والسوري القومي أيضاً بالطبع أنهم مع التوعية الوطنية داخل سوريا قبل الحديث عن المشاريع الكبرى، واختلافي معهم هو التالي: لنفرض جدلاً أننا حققنا الوحدة الوطنية الفعلية، وبنينا اقتصادا متطوراً ومؤسسات إلى آخره وأصبحت سوريا قبلة للاستثمارات وانتقلنا إلى مصاف الدول المتقدمة، وبقيت الأردن على فقرها بل وازدادت فقراً، ثم أبدت تركيا رغبتها في تقوية العلاقات معنا كما هي تريد تقوية العلاقات مع الاتحاد الأوروبي حالياً، وكونه يربطنا تاريخ مشترك طويل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك فكانت هناك رغبة تركية في الاتحاد مع سوريا، هل أترك ذلك وأقول أن إيديولوجيتي تقول أن تركيا أمة أخرى غير أمتي ؟ بينما أقبل طلب الأردن العربية الفقيرة كي تغرقني بعمالتها غير الماهرة وتسحب مواردي لتنمية وتطوير حالها ؟
هل هذا إغراق في الخيال ؟ ربما، ولكني أريد أن أسأل أي سوري، يا هل ترى يرفض فعلاً مثل هذا الاتحاد مهما كانت الظروف لصالح إيديولوجيته ؟ وإذا أجاب بأنه يرفضه عليه أن يسأل نفسه، لماذا يا هل ترى يرفض العرب الخليجيين إدخال اليمن في مجلسهم ؟
ما أريد أن أؤكد عليه أن المصالح أهم بكثير من الإيديولوجيات، وأن التنظير عن القومية يصبح هراء خاوياً عند أول امتحان حقيقي مع مصالح الناس وأنه من الأفضل تناسي الأراضي السليبة في تركيا وإيران والملك الضائع هنا وهناك والنبش في كتب التاريخ عن حدود سابقة لممالك اندثرت الآن والمطالبة بها، من الأفضل تناسي كل ذلك والتركيز على تثبيت ما هو موجود على أرض الواقع.
وعندما نصل إلى مرحلة من التقدم والرفاه تزيد عما هو موجود حولنا فسيأتي جيراننا من تلقاء أنفسهم وبدون أي جهد تنظيري من قبلنا ليطلبوا الاتحاد معنا، بل أكثر من ذلك، سيظهر بينهم منظرون يؤكدون على قوة العلاقة بيننا وبينهم وجذورها الضاربة في أعماق التاريخ!!
علينا فقط النظر لمحاولات تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي لمعرفة ما أعني، ليس فقط سيطلبون الاتحاد معنا، بل سيمكننا فرض شروطنا والتبطر عليهم أيضاً كما يفعل الأوروبيون مع تركيا الآن.
يبقى في النهاية الاعتراضات:
أولاً - الاعتراض الشهير: لن يسمح لنا الاستعمار ولن تتركنا إسرائيل في حالنا وستبقى القوى الخفية التي تحكم العالم تحيك المؤامرات علينا ما لم نتوحد أولاً، سمعتها مائة مرة، هذه الاعتراضات نابعة من عصاب متأصل في الإنسان السوري نظراً للحشو الإيديولوجي الطويل الذي تعرض له، هذا العصاب يهيئ له أن العالم والغرب خصوصاً بطوله وعرضه متفرغ تماماً ولا هم ولا عمل له إلا حياكة المؤامرات كي يبقينا متخلفين خوفا من تسيدنا العالم في حال تطورنا، والتصور الأكثر قرباً للتفكير الجمعي السوري هو أن إسرائيل بالذات لن تسمح بقيام قوة بجانبها وستفشل أي محاولة تبذل في هذا المجال.
أما عن المؤامرات العالمية فهي أتفه من أن يرد عليها، على من يتكلم بهذا المنطق أن يفسر لماذا سمح الغرب الشرير للصين وكوريا وماليزيا وسنغافورا وغيرها كثيراً بالانتقال من العالم الثالث إلى مصاف الدول المتقدمة ثم ضاقت عينه فقط عندما يصل الدور على سوريا.
أما عن إسرائيل فهي الشماعة التي نعلق عليها فشلنا والحجة الأفضل لتقصيرنا، تنبع حجة إسرائيل من افتراض أن الإسرائيليين هم صنف خاص من البشر لا تنطبق عليهم قوانين الطبيعة، وبالتالي لا يهنأ لهم عيش إلا في الدخول في حروب بلا نهاية لها، وأنه لا مصلحة لهم في الحياة في منطقة آمنة ومستقرة وثرية اقتصادياً واجتماعياً وأنهم يفضلون الحياة في قلعة محصنة تسبح في بحر من الكراهية وقضاء أعمارهم في الجيش والاحتياط.
ثانياً – اعتراض أننا لا يمكن أن نتقدم وحدنا، فنحن أمة صغيرة والعالم الآن تتنازعه الحيتان الكبار، موافق مع بعض التحفظات، فبعض الأمم الصغيرة أبلى بلاء حسناً، ولكن لا بأس ففي الاتحاد قوة، ولكني أقول فقط: دعوا الإيديولوجيا والتنظير وانظروا للمصالح فهي أساس كل شيء.
أريد في النهاية أن أقول أنه لو حصلت معجزة ما وتوحدت الأمة العربية أو السورية فلن أحزن، بل سأكون أول المصفقين والمؤيدين، وأنه ليس عندي أي مانع في حصول تقارب بين الدول السورية أو العربية على الإطلاق بل أشجعه بشدة، كل ما أدعو إليه هو ترك أوهام الماضي وأحلام العصافير والتركيز على ما لدينا فعلا، عندما نبني بيتنا الصغير الذي ورثناه دون أن يكون لنا يد في ذلك نستطيع البدء منه لبناء بيت كبير نفاخر فيه الأمم في مستقبل الأيام.