28‏/9‏/2015

هل أنت طائفي؟


من المسلي للغاية سماع عبارة" "أنا لست طائفياً، ولكن ....."، ثم يتبعها قائل العبارة فوراً بكلام تقطر منه الطائفية، ولعل الترجمة الأفضل لهذه العبارة هي: أنا طائفي، ولكني أخجل من للك، وفي نفس الوقت لا أستطيع كتمان هذه الطائفية في قلبي، لذلك سأبدأ بالنفي عل من يسمعني يصدق أو يعذرني.

ولا بد هنا من القول بأن الطائفية لا يمكن اختزالها بمجرد نعم أم لا، هذا طائفي وذاك ليس كذلك، فالطائفية طيف واسع للغاية يبدأ من الاعتدال الشديد مثل تجنب التزاوج مع طائفة أخرى وتنتهي عند مخبولي داعش وأشباههم ونظرائهم من بقية الطوائف، مروراً بدرجات عديدة منها تجنب علاقات العمل ثم الجوار ثم علاقات الصداقة انتقالاً إلى علاقات المعرفة العابرة ومنها إلى التعريض الصريح بمعتقدات الغير والمجاهرة بعدائهم ووجوب التمييز ضدهم انتهاء بأقصى درجات التطرف العنيف. وأغلب الناس طبعاً تقع على نقطة ما في الوسط.

وليس من الضروري أن يعي المرء أنه طائفي حتى يكون كذلك، فالطائفية مع الأسف متجذرة في مجتمعاتنا إلى درجة أن الخطاب الطائفي (والعنصري أيضاً مع الأسف) لدينا يمر بدون ملاحظة أو حتى إرادة واعية.

ولا أوجه هذ المقال طبعاً إلى من يجاهر، بل يفتخر أيضاً، بطائفيته، فبالنسبة لهؤلاء الطائفية هي منهج حياة وعقيدة محترمة ومجال للمباهاة والمزاودة على الآخرين، أذكر هنا بعض بالتخصيص بعض الثوار السوريين الميامين الذين أثروا اللغة العربية بكلمة جديدة هي "التائفية"، وهي مشتقة طبعاً من الأصل العربي ويستخدمونها كما يبدو في السخرية من المخنثين وأشباه الرجال من أمثالي الذين يرون بأن الطائفية شر وخطأ ولا يمكن أن تبنى اعتماداً عليها أوطاناً تستحق الحياة فيها.

وبالرغم من أن الطائفية منبثقة بالطبع من لإيمان الديني، إلا أنهما ليسا شيئاً واحداً، فكما أنه ليس بالضرورة أن يكون كل أبيض البشرة عنصرياً ضد السود، كذلك ليس من الضروري أن يكون كل مؤمن طائفياً تجاه بقية الأديان، ولدي في حياتي الخاصة أمثلة كثيرة لحسن الحظ عن مؤمنين عن قناعة ومع ذلك لا طائفيين بالكامل أو يقعون على درجة منخفضة جداً في سلم الطائفية.

ومن نافل القول أن الطائفية ليست حكراً على الإسلام قطعاً. فهي متجذرة عميقاً في نفوس مواطنينا بغض النظر عن الديانة، ولكن هذا لا ينفي مع الأسف الأمر الواضح، وهو أن أكثر تجلياتها قبحاً وتطرفاً وعنفاً بلا منازع محصورة في بعض المسلمين، ولكن هذا باعتقادي لا يرجع إلى الإسلام بقدر ما يرجع إلى كون المسلمين هم الأغلبية العددية التي تستطيع المجاهرة بطائفيتها وممارستها بأمان دون الخوف من عواقب ذلك، بعكس بقية الطوائف التي تتبنى العلمانية كضرورة ناتجة عن ضعفها لا عن قناعة بها.

بقي أن أذكر هنا العلامات الدالة على الطائفية، بدون ترتيب معين، مع شيء من التفصيل:

- عندما تشعر أن تقبلك للطوائف الأخرى في بلادك، وحتى قبولك بالمساواة معهم، هو فضل ومنة يجب أن يشكروك عليها.
المساواة وحقوق الإنسان لا تبع من عقيدة معينة ولا يجب أن يبرر أصلاً الاعتراف بها بأنها تتوافق مع نصوص هذه العقيدة أو تلك، حقوق الإنسان نابعة فقط من كونه إنسان، نقطة انتهى. وليست بكل تأكيد منة أو فضل من فئة على أخرى تهبها أو تمنعها.

- عندما تطالب بحكم وشريعة طائفة الأكثرية في بلادك وتطالب بالمساواة لك في البلاد الأخرى.
من أكثر علامات النفاق بشاعة، ومع الأسف منتشرة بشكل هائل.

- عندما تطالب الناس بألا يأخذونك بجريرة المتطرفين من طائفتك بينما لا تجد غضاضة في تصنيف الآخرين حسب تصرفات أسوأهم.
ووجهها الأخر طبعاً، وهو عندما تعذر جرائم طائفتك وتبررها بكونها أخطاء فردية أو ردود فعل، ولا تجد حرجاً في تعميم جرائم أفراد أو جماعات تنتمي إلى أي طائفة أخرى على جميع المنتمين إليها.

- عندما تفسر كلمات "أقلية" و"أغلبية" في نقاش سياسي على أنها تعني ديناً أو طائفة عوضاً عن اتجاه سياسي أو اقتصادي.
قليل مما يحز في القلب أكثر من كون الدول العربية القليلة التي فيها برلمانات منتخبة يتوزع نوابها على الطوائف عوضاً عن الأحزاب السياسية والاتجاهات الاقتصادية. بئس الديمقراطية ديمقراطية الطوائف.

- عندما تحب صدام حسين لنفس الأسباب التي تكره حافظ الأسد لأجلها أو بالعكس.
وأنا لا أحاكم هنا أفعال أيهما ولا أقارن بينهما لأعرف من الأفضل، لكن قليل ما هو أبشع من نفاق السوريين والعراقيين الذين يكرهون أحد الرجلين فقط لكونه ينتمي لطائفة معينة ويحبون الآخر لأنه ينتمي للأخرى.

- عندما تعتقد أنه يجب تدريس ونشر دينك ومذهبك (والأديان والمذاهب التي ترضى عنها) فقط في المدارس ووسائل الإعلام الحكومية. (مع التنويه هنا باعتقادي الشخصي بضرورة عدم نشر وتدريس أي دين على الإطلاق في مدارس ووسائل إعلام الدولة).
ثم تزيد الأمر سوءاً بتبرير ذلك بالرغبة في عدم إثارة البلبلة والفتن.


- عندما ترى أنه يجب احترام شعائرك الدينية فقط دون غيرها وتجرح مشاعرك عند عدم حصول ذلك.
لا بد لي من القول أن قضية مشاعر الطائفيين المرهفة تزعجني للغاية، فالطائفي لا يكتفي باحترامه الشخصي لشعائره ومعتقداته، بل يعتقد أن على غير المؤمنين بها احترامها كذلك تحت طائلة ردود فعل تتراوح بين النظرات العابسة والتعليقات المهينة، وانتهاء بالمظاهرات الصاخبة والأعمال العنيفة. ومن البديهي أن هذا الاحترام من طرف واحد فقط، لأن احترام جميع المعتقدات أمر مستحيل.

- عندما يثور حسك الإنساني المرهف وتتباكى على الضحايا المدنيين من طائفتك فقط.
هذه القضية من إفرازات الحرب السورية البشعة، حيث يتحفنا الطائفيون الذين يتسولون عطف "المجتمع الدولي" باستمرار بصور ضحايا الأطفال والنساء من طائفتهم حصراً، بالصدفة المحضة طبعاً !

- عندما تعتقد أن السبيل الوحيد لحل مشكلة الطوائف المختلفة يكمن في "إقناعها"، بخطأ معتقداتها.
سمعتها ورأيتها أكثر من مرة مع الأسف، ومن ناس يمكن حمل كلامهم على محمل النية الحسنة أيضاً.

في النهاية أحب أن أنوه أنني من الناس التي تعتقد أن مسألة الطائفية، التي لا يفوقها أهمية إلا مسألة لانفجار السكاني، قد تم تجاهلها تماماً حتى الآن (مع مسألة الانفجار السكاني أيضاً لزيادة الأـمر سوءاً).
حيث عالجتها السلطة في سوريا بالعبارات المنمقة مثل "اللحمة الوطنية" و"الفسيفساء السورية" و"التعايش المشترك"، وذلك بطريقة خياطة الجرح فوق القيح دون تنظيفه، واستمرت في فرض السلم الأهلي اعتماداً على قوة القمع فقط حتى انفجر الأمر بأكمله في وجوهنا جميعاً الآن.

وما لم يفتح حوار جدي حول هذه المسألة سيكون أي حل يتم التوصل إليه مجرد هدنة أخرى في حرب تبدو بلا نهاية.

16‏/7‏/2015

مأساة اسمها سوريا

مرت الآن سبع سنوات على كتابتي لمقال لعبة الأمم:


حاولت فيه وقتها الإدلاء برأيي في الهوية الوطنية للسوريين وضرورة تقويتها للوصول إلى بلد ينبع استقراره من قناعة أبناؤه فيه وليس من قوة الحكم العسكري. لا أقول ذلك لأتفاخر بكوني الناصح الأمين الذي لم يستمع أحد لكلامه، أو كونى المتنبئ الذي كشفت عنه الحجب، فأنا أعي تماماً مدى ضعف تأثيري وقلة عدد قرائي، ولي نصيبي من التنبؤات الفاشلة مثل غيري. والحق يقال أنني أتمنى من كل قلبي لو أن مخاوفي التي عبرت عنها وقتها لم تتحقق وتبين فشلي في قراءة الأحداث.

ولكن مع الأسف لحقت سوريا بالعراق في 2011، وتجاوز ما حصل بكثير في كارثيته أكثر توقعاتي تشاؤماً، ودخلت سوريا في نفق لا أحد يعرف إن كانت ستخرج منه وبأي شكل سيكون هذا الخروج لو حصل.

ما سأكتبه الآن، وبعد مرور أكثر من أربعة أعوام على بداية الحرب، هو قراءتي للأسباب التي أدت بنا إلى الوضع الحالي، مع قناعتي المسبقة بالمخاطر الفكرية الشديدة المرافقة لقراءة التاريخ بأثر رجعي واستنتاج أسباب الأحداث، كانت حججي ستبدو أكثر إقناعاً بما لا يقاس لو كنت كتبت هذه الكلمات قبل اندلاع الحرب. ولكني سأقدم برغم ذلك.

باعتقادي أن ما حدث في سوريا يرجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية، يمكنني اختصارها كالتالي: ضعف الهوية الوطنية، الفساد الداخلي، ثم النهج الوطني للدولة. وقناعتي هي أن اجتماع هذه الأسباب معاً هو ما أـنتج المأساة التي نعيشها الآن، حيث كان يمكن أن نتجنب ما حصل لو غاب أحدها، ولكني أعتبر ثالث هذه الأسباب أهمها، وسأحاول بيان الأسباب التي قادتني إلى هذا الاعتقاد.

السبب الأول - ضعف الهوية الوطنية:

أعتقد أـني أوضحت رأيي في موضوع صراع الهوية في مقال لعبة الأمم، ولا داع لتكرار ما كتبته هنا أيضاً، وقد بين الواقع مع شديد الأسف أن الهوية السورية (وأقصد سورية بحدود سوريا الحالية والهوية السورية الأعم بل والهوية العربية أيضاً) لم تستطع مقاومة المد الطاغي للهوية الإسلامية السنية التي عززتها وأثارتها بل وهيجتها حملة تحريض طائفي هائلة استعملت إمكانيات مالية ضخمة وكل وسائل التكنولوجيا الحديثة في جهد منظم لتحويل ما كان يفترض أن يكون صراع بين شعب مقموع ونظام فاسد إلى صراع بين أغلبية سنية ومجموعة أقليات.

وبكل تأكيد أدى التحريض المستمر والتركيز الكامل على الهوية السنية للطرف الأول إلى ظهور المكون الطائفي (الكامن دوماً) لدى الأطراف الأخرى، وبعد ذلك أدى تدخل الجهاديون السنة القادمون من كل أصقاع الأرض إلى قدوم ميليشيات وأطراف شيعية من أنحاء شتى ليصبح الصراع ديني وطائفي بشكل شبه كامل، على الأقل من طرف المعارضة، حيث يمكنني تجاهل الجانب الوطني فيها كونه بلا تأثير يذكر في مجريات الأحداث على الأرض.

ما حصل في السنوات الأخيرة زاد من ضعف الهوية الوطنية بشكل كبير، وهي التي لم تكن قوية بالشكل الكافي أصلاً، لا يبقى لي سوى الأمل بأن الزمن وانحسار المد الديني القادم سيتكفل بترميم ما تضرر.


السبب الثاني - الفساد وسوء الإدارة الداخلي:

دعنا نسمي الأمور بمسمياتها، سوريا ليست جمهورية إلا بالاسم فقط، والفساد فيها ليس حالات فردية أو حتى جزر متفرقة من الفساد ضمن بنية الدولة، الفساد في سوريا منهجي ومبرمج ومخطط له لشراء الولاء والأتباع وتثبيت السلطة المؤبدة والمطلقة.

وبرأيي أن بنية السلطة السورية الفاسدة عصية على الإصلاح، لأن الإصلاح إذا حصل ستكون أول نتائجه انفراط هرمية هذه السلطة التي سيفقد مؤيدوها الحافز لدعمها في حال مست عملية مكافحة الفساد مصالحهم.

يشمل الفساد في سوريا هرم السلطة من أدناه إلى أعلاه عمودياً وعبر كل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية أفقياً، من الموظف الصغير المسؤول عن تسيير معاملة ما وصف الضابط المسؤول عن إطعام سرية جنود إلى رؤساء الوزراء وكبار ضباط الجيش.

وفي السنوات الأخيرة قبل الحرب، ومع تقدم من انتزع السلطة في الستينات والسبعينات في السن وتقاعدهم، برزت طبقة أولادهم، الطبقة التي آلت إليها السلطة والثروة على طبق من ذهب دون أن تحارب من أجلهما، الطبقة التي اعتادت منذ الصغر تملق الناس لها وتذللهم أمامها، ولم تعرف مثل آباءها عيش وشعور الناس العاديين. ولربما بلغ الغباء والغرور ببعضهم إلى درجة تصديق حب الناس لهم وبأنهم عبقريات اقتصادية وصناعية فذة لم يأت الزمان بمثلها.

تخلى هؤلاء الأولاد عن التجار الذين استعملهم آباءهم كواجهات يسترون فسادهم خلفها، وفضلوا، معتمدين على ثقة (في غير محلها كما تبين لاحقاً) باستمرار الوضع كما هو عليه إلى الأبد، فضلوا الظهور كقادة الاقتصاد والصناعة والتجارة بأسمائهم الصريحة، وأصبحوا نجوم مجتمع يطلون بوجوههم الصبوحة من شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد والمجلات ليتحفوننا بآرائهم السديدة عن أمثل الطرق في دفع الاقتصاد السوري إلى الأمام.

ولا أريد إملال القارئ في سرد الشركات والمعامل والفنادق والمشاريع والمزارع التي لا حصر لها والتي كان الفضل في نجاحها يرجع فقط إلى عبقرية مليونيرات من أبناء ضباط وقيادات ثورة ادعت قبل عقود قليلة فقط أنها قامت كي تبني الاشتراكية وتلغي استغلال الطبقات الثرية للفقراء. يكفي القول أنه قد ساهمت هذه الطبقة بشكل لا تستهان به في مفاقمة حالة النقمة الشعبية.

أما من ناحية سوء الإدارة فالحديث يطول بشكل يجعل من غير العملي الدخول في تفاصيله هنا، ولعلي لا أبالغ إن قلت أنه بالإمكان كتابة مجلدات في هذا الموضوع. ولكن برأيي أن الكارثة الأولى التي تحمل السلطة القسط الأكبر من المسؤولية عنها هي تقصيرها الكبير في التصدي لظاهرتي الانفجار السكاني المخيف الذي دمر موارد وطبيعة سوريا بشكل شبه كامل أولاً، والتعصب الديني الذي اجتاح المجتمع السوري ثانياً، أسهمت الظاهرتان بشكل كبير في إشعال الأزمة الحالية واستمرارها وذلك برفدها بمعين لا ينضب من الشباب الفقير والجاهل والغاضب لانسداد الأفق في وجهه.

 فضلت السلطة (بكم هائل من قصر النظر) عدم الاقتراب من كلا الموضوعين كونهما يمسان تابوهات المجتمع، واختارت عدم الاقتراب من عش الدبابير واثارة مواضيع شائكة لم تر الفائدة من إثارتها طالما لم تمس ما يهمها بالدرجة الأولى: ديمومة بقاء السلطة في يدها.

الأمر طبعاً أعقد من أن يختصر ببضعة أسطر في مقال، فكلا ظاهرتي المد الديني والانفجار السكاني لا تقتصران على سوريا وليس من السهل على الإطلاق التصدي لهما، ولكني أعتقد أن السلطة السورية في أعقاب انتصارها على الاخوان وقتها كانت من القوة بحيث تستطيع فتح هذه الملفات الصعبة ومواجهتها، ومع شديد الأسف تخاذلت واختارت العكس، بل لعل الأمر أسوأ من ذلك، لعلها لم تكن تعي خطورتهما على المدى المتوسط والبعيد.


السبب الثالث - النهج الوطني للسلطة:

كل ما كتبته في مقال لعبة الأمم والفقرات السابقة في هذا المقال يشكل البنية التحتية والبيئة الحاضنة التي أوجدت دولة في حالة غير مستقرة يمسكها ويمنعها من التفتت قوة القمع وسلطة الجيش بشكل رئيسي، وتماماً كما كنت أخشى، عندما ضعفت قبضة السلطة بدأت البلاد بالتحلل إلى مكوناتها وولاءاتها ما قبل الوطنية، ولكن كل ما سبق ربما ساهم في سرعة انفلات الأمور وزاد من حدة الصراعات والانقسامات الحاصلة، لكن أي منه لم يكن السبب المباشر لهذه الحرب. سأحاول التفصيل:

إذا بدأنا بضعف الهوية الوطنية، فهو ليس بحالة تنفرد فيها سوريا بأي شكل من الأشكال، فعلى الأقل تشاركها فيها لبنان والعراق والسعودية واليمن وليبيا والجزائر والمغرب والسودان والصومال، وهذا لا يعني أن بقية الدول العربية مستقرة وذات هوية ناضجة، كلنا سمع عن مشاكل مصر في سيناء والمشاكل الطائفية في البحرين والكويت، وصراعات العشائر البدوية مع الفلسطينيين في الأردن وغيرها، فمن ناحية الهوية الوطنية، لا يوجد كبير فرق بين سوريا المضطربة والسعودية "المستقرة".

وإذا انتقلنا إلى الفساد والديكتاتورية، فمن نافل القول أنهما في سوريا - على فظاعتهما – لا يختلفان كثيراً عن وضعهما في بقية الدول العربية "المستقرة"، ولا داع هنا لإجهاد النفس في سرد الأمثلة.

والشيء نفسه ينطبق على سوء الإدارة وتجنب معالجة المشاكل الكبرى، لعلي أستطيع تكرار ما كتبته عن الوضع في سوريا وتطبيقه كلياً أو جزئياً على أي دولة عربية أخرى بتعديلات طفيفة في الأسماء والتواريخ.

يبقى السؤال الكبير هنا، لماذا انفجر الوضع في سوريا وبعض الدول الأخرى بينما لم يحصل ما يستحق الذكر في الكثير من الدول العربية التي يشبه الوضع فيها تماماً سوريا؟

لماذا سارع "أصدقاء سوريا" إلى دعم ثورة الشعب السوري المظلوم إعلامياً ومالياً وسياساً وتسليحياً بينما أداروا ظهرهم جميعاً لدبابات الجيش السعودي وهي تسحق ثورة الشعب البحريني الذي لا يقل مظلومية عن الشعب السوري؟

لماذا لم تستثر حمية أحد عمليات القتل المنهجي التي نفذها الجيش المصري بحق متظاهري الأخوان المسلمين السلميين وبالمئات وبلا تردد بينما قامت الدنيا ولم تقعد على حوادث أقل منها بكثير اتهم فيها النظام السوري؟

لماذا لا يوجد "الائتلاف الوطني البحريني" و"الجيش الحر العماني" و"منظومة أصدقاء مصر"، ولم يفرض الاتحاد الأوربي عقوبات على السعودية ولم تطرد السودان من جامعة الدول العربية ولم يطالب أحد بفرض مناطق حظر طيران وممرات إنسانية في اليمن؟

أعتقد أنه يمكن الإجابة على كل الأسئلة السابقة بكلمتين: هضبة الجولان.

قبل قرابة خمسة عقود من الزمن، وفي عالم مختلف تماماً عن عالم عام 2011، اندفعت مجموعة من الضباط الشباب المؤدلجين، والذين لم يمض على استيلائهم على السلطة إلا أربعة أعوام، وفي جو عربي ثوري ومراهقة فكرية مؤسفة، اندفعوا في مزاودات خرقاء في الوطنية مع خصمهم اللدود جمال عبد الناصر، معطين الفرصة لإسرائيل التي فشلوا تماماً في تقدير قوتها أولاً وضعفهم ثانياً كي تحتل جزءاً من التراب السوري مع الضفة الغربية وصحراء سيناء. كان أحد هؤلاء الضباط الشباب وزيراً للدفاع واسمه حافظ الأسد.

بعد ذلك بثلاث سنوات، أزاح الأسد بقية الضباط وانفرد بالسلطة حتى وفاته عام 2000 وتسلم ابنه السلطة بعدها مستمراً على نفس الخطوط العامة لسياسة والده داخلياُ وخارجياً، مما يمكن اعتبار السلطة واحدة في العهدين.

حاولت السلطة كل ما في وسعها في العقود التالية تصحيح ذلك الخطأ الكبير واسترجاع الجولان، لعلنا لن نعرف أبداً إن كانت هذه المحاولات الدؤوبة والمكلفة ناتجة عن قناعة فكرية بقدسية التراب الوطني أو عن شعور بالمسؤولية الشخصية عن ضياع الجولان، في كلا الحالين النتيجة واحدة.

حاولت السلطة أولاً استرجاع الجولان عسكرياً بشكل مباشر في عام 1973، وبعد تغير الظروف وخروج مصر من حلبة المواجهة اتجهت إلى المواجهة غير المباشرة مع إسرائيل في لبنان مما نتج عنه حرب عام 1982 وإفشال اتفاق 17 أيار عام 1984.

وبعد بدء ضعف الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينات وانهياره تماماً في بداية التسعينات ومعه الحركات اليسارية عالمياً، وبالتالي بروز الولايات المتحدة كقطب أوحد في العالم، بات من الواضح للقيادة السورية أن استرجاع الجولان عبر الصدام المسلح مع إسرائيل أصبح خارج نطاق البحث، وباتت استراتيجيتها استرجاع الجولان عبر مزيج من التفاوض مع إسرائيل (تجسد بمقولة "السلام خيار سوريا الاستراتيجي")، وإبقاء ما يمكن من الضغط عليها كي يكون لديها حافز لإعطاء أي قدر من التنازلات ضمن الإمكانيات المحدودة المتاحة نظراً لضعف سوريا العسكري والتقني والاقتصادي، وهكذا تحالفت سورياً مع كل جهة وحركة معادية لإسرائيل مهما كانت تختلف مع هذه الجهة في الإيديولوجيا والأهداف كإيران وحزب الله كجهات دينية تناقض أهدافهما المحافظة الدينية التوجهات البراغماتية والعلمانية للسلطة في سوريا، بل وتحالفت مع الجهاد الإسلامي برغم سلفيته ووصلت حتى إلى التحالف مع الإخوان المسلمين ألد أعداءها ممثلين بفرعهم الفلسطيني حماس.

باختصار لم تترك سوريا فرصة تستطيع فيها إزعاج إسرائيل إلا واغتنمتها، كانت هناك بعض النجاحات كتحرير جنوب لبنان، ولكن هوة فرق القوة لم تردم بما يكفي كي يقنع إسرائيل أن ما ستحققه من السلام مع سوريا وإرجاع الجولان سيفوق الفائدة الحاصلة عليها فعلاً بالاستيلاء عليه. ما نتج عن هذه السياسة عملياً هو إدامة حالة العداء مع إسرائيل في الوقت الذي تزداد فيه هذه الأخيرة قوة ونفوذاً أولاً، وانحيازاً كبيراً إلى اليمين الديني والقومي المتطرف ثانياً. وليس المرء بحاجة لأن يكون متبحراً في دهاليز السياسة الدولية وخفاياها ليعرف أن عداوة إسرائيل في الشرق الأوسط تعني حتماً ومباشرة عداوة الولايات المتحدة، وأن عداوة الولايات المتحدة سينتج عنها بشكل شبه مؤكد عداوة المحميات الأمريكية في الخليج العربي التي تتمتع بهامش من حرية القرار والمناورة يقترب من الصفر إذا تعلق الأمر بإرادة السيد الأمريكي الذي يتمتع بدوره بهامش من حرية الحركة يقارب الصفر إذا تعلق الأمر بالإرادة الإسرائيلية في سياساته الشرق أوسطية.

وازدادت عدائية أمريكا بشكل كبير بعد وصول بوش الابن للرئاسة وأحداث 11 سبتمبر، وأوضحت بعدة أشكال أن هدفها الآتي بعد صدام حسين هو النظام السوري، مما دفع هذا الأخير إلى التحالف حتى مع ألد أعداءه الجهاديين وتسهيل حركتهم إلى العراق لإفشال المشروع الأمريكي قبل أن يصل الدور إليه، ثم ظهرت قضية الحريري محكمته الدولية وانسحب الجيش السوري من لبنان وبدأت تتصاعد حدة العداء الخليجي للسياسة السورية باضطراد، وبدأ بعض من أحس مبكراً باللعبة من أركان النظام بقلب تحالفاته والانشقاق، وصولاً إلى الضربة النهائية عندما سنحت الفرصة عند بداية ما تمت تسميته "الربيع العربي" المشؤوم.

وهكذا واجهت السلطة في سوريا جبهة في غاية القوة من الأعداء جمعهم عليها عداء إسرائيل بشكل رئيسي، جابهتهم بجبهة داخلية هزيلة نتج هزالها بشكل رئيسي عن سياساتها الداخلية وآليات الحكم فيها، والآن بعد مرور أعوام على بدء الحرب نرى النتائج المأساوية لامتزاج الوطنية المقاومة مع الفساد والإهمال والتخلف.

وماذا عن العامل الشعبي وانتفاضة الشعب المضطهد المظلوم؟ ألم يكن لها دور؟ ألم يخرج عشرات الألوف (عشرات الملايين حسب إعلام المعارضة) من الناس تطالب بالإصلاح الذي تأخر كثيراً؟

نعم خرجوا (وخرج غيرهم في دول أخرى)، ونعم كانت مطالبهم في البداية محقة باستثناء الجانب الطائفي منها (كما كانت مطالب غيرهم محقة)، ونعم النظام ديكتاتوري وفاسد (مثل كل الأنظمة العربية بلا استثناء)، ولكن كل هذا الحراك كان سينتهي خلال بضعة أسابيع على الأكثر كما انتهى في البحرين ومصر أمام قوة السلطة لولا ركوب جبهة أعداء سوريا عربة الثورة وتحويلها إلى المسخ الذي نراه حالياً.

إلى أين الآن؟ أكرر أني لا أعرف ولا أعتقد أن أحداً يعرف. يبقى فقط الأمل.

1‏/7‏/2013

الحمقى المفيدون

الحمقى أو البُله المفيدون Useful Idiots هو تعبير أطلق في البداية على حسني النية من مواطني الدول الغربية الذين روجوا للإيدولوجيا الشيوعية واليسارية بصفتها منهجاً أخلاقياً وطريقاً لتقدم البشرية، حيث كانت الفكرة أن هؤلاء كان يستخدمهم ستالين وغيره لتسويق الفكر الشيوعي وتمرير الأجندات السياسية السوفياتية التوسعية مع احتقاره لهم بصفتهم مجموعة من الأغبياء الذين انطلت عليهم الدعاية الشيوعية التي صورت "الجنة الاشتراكية" كمثال يحتذى. بعد ذلك تم التوسع في استخدام هذا المصطلح لكل شخص يعمل بحسن نية كأداة في يد جهة ما تستفيد من سذاجته في تصديق دعايتها.
ما أريد التكلم عنه هو نوع آخر من الحمقى المفيدين، يختلف فقط في كونه لم يصدق دعاية الطرف المستفيد من حماقته، بل صدق كذبه ألفها هو بنفسه ووجدها الطرف المستفيد أداة رائعة لتحقيق أهدافه.
من أتكلم عنهم طبعاً هم أتباع الإسلام السياسي بأطيافه المختلفة بدءاً من "المعتدلين" منهم كالإخوان المسلمين أصحاب "الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية" (الحق يقال أنني شديد الإعجاب بمن اخترع هذا المصطلح)، وانتهاء بالمهووسين السلفيين من حاملي السواطير الذين لا يجدون غضاضة في الدعوة للغزو والسبي وفرض الجزية وإرجاع زمن الخلافة ويا غلام اضرب عنق عدو الله.
الطرف المستفيد حالياً بالطبع هو حكومة الولايات المتحدة والمصالح التي تمثلها: مصالح النفط والمال وصناعة الأسلحة وبالطبع إسرائيل، وأقول حكومة وليس الولايات المتحدة نفسها لأن المواطن الأمريكي العادي لربما كان متضرراً من السياسات التي تتبعها حكومته، بدرجة أقل طبعاً من الحمقى المفيدين وأقل بكثير ممن شاء له حظه العاثر الولادة في البلاد التي لهؤلاء الحمقى نفوذاً فيها والتي تشكل "الأمة الإسلامية" حالياً. وسأختصر في بقية المقال وأذكر أمريكا ولكني أعني بها حكومتها فقط.
بدأت القصة عملياً في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، أيام دخول المشاريع العلمانية والاشتراكية في الدول ذات الأغلبية الإسلامية في مرحلة الاحتضار والإفلاس وصعود التيار الإسلامي ليملأ الفراغ الإيديولوجي الذي أخلته. تجلى ذلك بأوضح الأشكال في انهيار حكم الشاه في 1979 ليحل الخميني محله وانقلاب السادات في مصر على الإرث الاشتراكي لعبد الناصر ودعمه للتيارات الدينية لمحاربة هذا الإرث وتمرد جهيمان العتيبي في مكة والتراجع عن أغلب المكتسبات المدنية في السعودية الذي تلاه لصالح أشد أنواع السلفية تزمتاً وكان هذا ثمن دعم رجال الدين الوهابيين في سحق التمرد. ثم أتى التدخل السوفياتي في أفغانستان عام 1980 وكان أول استخدام للحمقى المفيدين من قبل أمريكا وتكلل بنجاح منقطع النظير بعد ذلك بثمان سنوات بخروج الاتحاد السوفياتي المذل من أفغانستان.
في هذا الوقت كانت رياح البيروسترويكا بدأت تعصف ببناء الاتحاد السوفياتي الهش لينهار بشكل كامل في عام 1992 وينتهي بذلك أي تحدي أو تهديد للهيمنة الأمريكية على العالم، لا أريد التوسع هنا في المبالغة الأمريكية الكبيرة في التهديد السوفياتي لأمنها أثناء الحرب الباردة، سأذكر فقط أنه في النهاية من يربح أي حرب هو صاحب الاقتصاد الأقوى (ما عدا حروب الإبادة المتبادلة النووية التي لن يربح بها أحد)، وفي مجال الاقتصاد كان الاتحاد السوفياتي وكتلته متخلفاً بأشواط بعيدة عن الغرب.
في نهاية الثمانينات وبدايات التسعينات كان من الواضح أن الحرب الباردة قد انتهت وفقد بنهايتها التجمع العسكري-الصناعي الأمريكي American Military-Industrial Complex المبرر في الاحتفاظ بالجيش الأمريكي الكبير بغياب عدوه الشيوعي التقليدي وأصبح من الصعب تبرير الإنفاق العسكري الأمريكي الأسطوري وإقناع المواطن الأمريكي بأنه عليه قبول اقتطاعات في الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الأساسية للحفاظ على جيش عرمرم وقواعد عسكرية تنتشر في زوايا الأرض الأربع للدفاع ضد خصم لم يعد موجوداً. ولوضع الأمور في منظورها الصحيح عن حجم هذا الانفاق أذكر هنا أن الإنفاق العسكري للولايات المتحدة وحدها يعادل إنفاق بقية دول العالم مجتمعة تقريباً !!.
وهذا الانفاق العسكري قد يبدو غير مبرراً فعلاً من وجهة نظر المواطن الأمريكي، ولكن من يمسك بمفاتيح القوة في أمريكا وفي كل دول العالم تقريباً ليس هو المواطن العادي، بل صاحب المال والنفوذ وهو المستفيد الحقيقي من هذا الانفاق، فما الحل ؟ يجب إيجاد بديل بسرعة. ولا يوجد بديل أفضل من الإسلاميين حتى لو قامت أمريكا بتصميم هذا البديل بنفسها (ولا أعتقد أنها قامت بذلك، بل استغلت ما هو موجود فعلاً)، فهذا البديل:
1 – بخلاف الاتحاد السوفياتي الذي كان برغم نقاط ضعفه يملك ترسانة نووية مرهوبة الجانب ونخبة من ألمع العلماء وبرنامج فضائي وعلمي وصناعة ثقيلة بل وحتى فن وأدب راق ورياضيين من الدرجة الأولى إلخ...، بخلاف هذا كله الإسلاميون (وأعني بهم دعاة الإسلام السياسي وليس المسلمين) هم مجموعة من الهمج المتخلفين لا يملكون أي قوة حقيقية يمكن أن تشكل أي تهديد جدي أو حتى شبه جدي لمصالح أمريكا. كانت قمتهم في 11 سبتمبر حيث قتلوا حوالي 3,000 أمريكي، فإذا جمعت هؤلاء مع كل جندي ومدني أمريكي قتل في العراق وأفغانستان وكل مكان آخر على يد الإسلاميين خلال الأربعين سنة الماضية بأكملها فلربما وصلت في أكبر التقديرات إلى خمسة عشر ألف شخص، للمقارنة فقط يموت في الولايات المتحدة في السنة الواحدة فقط أكثر من ضعف هذا الرقم من حوادث السير وحدها....
2 – الإسلاميون عدو مثالي من ناحية الشكل: لحى شعثاء قبيحة وعمائم ولباس غريب للرجال وأكياس سوداء تلف النساء من الرأس إلى أخمص القدم. كل هذا يسهل كثيراً شيطنة هذا العدو ويسهل تصوره كبعبع للمواطن الغربي العادي.
3 – الإسلاميون عدو مثالي أيضاً من ناحية المضمون: خطاب سياسي واجتماعي ينتمي إلى ما قبل العصور الوسطى يطالب بعض المخبولين فيه بإرجاع الخلافة وبتطبيق عقوبات همجية تثبت صورة المسلم كبربري متوحش، وإصرار لا حدود له على تحنيط النساء وقمعهن وحصرهن، وخطاب عنصري كاره لا مثيل له تجاه غير المسلم بل والمسلم الآخر أيضاً.
4 – الإسلاميون عدو مثالي من ناحية الغرور والجعجعة الفارغة والعنتريات التي ما قتلت ذبابة، هم يصدقون فعلاً ثنائية المسلمون-الغرب السخيفة، وكيف أن الغرب يرتعد خوفاً من المارد الإسلامي الجبار الذي ما أن يستيقظ حتى يسود العالم ويملأه عدلاً، وبمنتهى الجدية يهددون أمريكا والغرب كله بالموت والدمار والويل والثبور وعظائم الأمور وبرفع رايات التوحيد خفاقة فوق روما وواشنطن وما إلى ذلك من الكلام الفارغ الذي لا يفيد إلا في إثارة خوف العامة في الغرب مما يساعد المستفيد الحقيقي أكثر وأكثر.
5 – الإسلاميون عدو مثالي من حيث كونهم شبح لا يمكن القضاء عليه، لا توجد لهم دولة يمكن غزوها ولا جيش يمكن هزيمته والانتهاء منه، وهكذا يمكن استخدامهم عملياً بلا نهاية وخصوصاً أن حظ منطقتنا التعيس ابتلاها بالنفط أولاً وإسرائيل ثانياً، مما يضمن وجود مستمر لأمريكا فيها وبالتالي استفزاز مستمر للجماعات الإسلامية الجهادية التي لا بد بين الفينة والأخرى أن تقتل بضعة أمريكيين وتستدعي رداً بالتالي يسبب المزيد من دورات الكراهية والانتقام المتبادل.
وهكذا وجدت أمريكا عدوها المثالي الصادق في عداوتها وفي نفس الوقت المفيد جداً لها وذلك بثمن بخس للغاية وهو حفنة من القتلى بين الفينة والأخرى.
في النهاية أقول أنه ليس لدي وثائق تدعم هذا التحليل، لكنه برأيي أفضل تعليل ممكن لسياسة أمريكية تبدو متناقضة بشكل غريب ظاهرياً، فهي تدعم الشيعة ضد السنة في العراق والسنة ضد الشيعة في سوريا، وتتحالف مع المجاهدين في ليبيا وتقصفهم في باكستان وتتحالف عضوياً مع منبع الوهابية والمصدر الأول لها مع علمها الأكيد أن هذه الإيديولوجية هي التي أفرزت من ضربها في 11 سبتمبر والأمثلة أكثر من أن تحصى.
عندما تدعم أمريكا الجهاديين في بلد ما لتحقق غاية لها فهي لا تفعل ذلك عن غباء كما يبدو ظاهرياً، هي تعرف تماماً أن بعض هذا الدعم سيستخدم ضدها وربما قتل بعض الأمريكيين على يد من دعمتهم، لكن هذا كما أسلفت ثمن مقبول لصاحب المصلحة الحقيقي.
باختصار كلما زاد الإسلاميون تخلفاً وغضباً وهياجاً وذبحوا وحرقوا وعاثوا في الأرض فساداً أكثر كلما خدموا مصالح صانعي السياسة الأمريكية بشكل أفضل، ولا عزاء للضحية الحقيقية لذلك كله وهو من شاءت له الأقدار أن يكون على الطرف المتلقي لغضب الإسلاميين وأمريكا معاً.
 

10‏/4‏/2009

هل أنا خائن ؟


قرأت في أكثر من كتاب ومقالة أن الشيخ محمد متولي الشعراوي سجد شكراً لله بعد هزيمة مصر عام 1967 لأن هزيمتها تحت المشروع القومي الاشتراكي منعت الشعب المصري من أن يفتن عن دينه حسب قوله، وبالتالي، وهذا قولي أنا وليس قوله، وهو الأهم كثيراً عملياً، مهدت للردة الحضارية التي حصلت فعلاً بعد ذلك وعودة رجال الدين إلى الواجهة بعد أن تم تحجيمهم بشكل أو بآخر في عهد قوة وعنفوان المشروع القومي "العلماني".

وكوني لم أقرأ هذا الكلام شخصياً في أحد كتب الشعراوي أو في موقع رسمي له، لا أستطيع التأكيد على صحة الحادثة وإن كانت رواية "متواترة" يستحيل أن يجتمع رواتها على الكذب، ولكني أفهمها تماماً لو كانت صحيحة، فالرجل برأيي هو مزيج من شخصيتين:
أولاً مسلم متدين يرى في العلمانية خطراً أكبر من خطر إسرائيل على عالمه.
وثانياً رجل سياسة جماهيري محترف ومحنك رأى فرصة ذهبية سانحة في هزيمة وإفلاس عدوه الفكري.
وبالتالي لا غرابة أن يشعر ما شعر، وما أريد كتابته في هذا المقال هي الأفكار المشابهة منها والمختلفة التي تزاحمت في رأسي وأنا أتابع المذبحة التي نفذتها إسرائيل في غزة مؤخراً بحق شعب سجين أعزل ليس له حول ولا قوة أمام جبروت جيشها.

لأبدأ ببعض النقاط التي تجعلني "وطنيا":
1 - المبرر الأخلاقي لمقاومة الاحتلال الاستيطاني بأي وسيلة من الوسائل لا جدال فيه بالنسبة لي، أي شعب جرد من أرضه وشرد مثل الشعب الفلسطيني له كل الحق في استعمال المقاومة المسلحة لاستردادها. قراءة التاريخ بحيث يبدأ بعد عام 1948 وتصوير أن الفلسطينيين يحاربون إسرائيل لأن الحرب تستهويهم أو لأنهم أشرار بالفطرة مثل أعداء سوبرمان والوطواط في المغامرات المصورة هو مهزلة بكل بساطة. قليلة هي القضايا التي يكون فيها الحق واضحاً مثل وضوحه في القضية الفلسطينية.


2 - لا يملك الفلسطينيون (وأي حركة مقاومة عادة) ترف اختيار أهدافهم بحيث يركزون على الأهداف العسكرية ويتركون المدنيين، عندما تكون حركة المقاومة بهذا الضعف أمام جبروت عدوها لا يسعها إلا أن تضرب حيثما استطاعت وفي خاصرة العدو الضعيفة وحيث تستطيع إيلامه.

3 - يخطئ (أو يكذب) من يظن (أو يتاجر) بأن الفلسطينيين يمكن أن يتجنبوا تصنيفهم كإرهابيين لو ركزوا فقط على مهاجمة الجنود الإسرائيليين وتركوا المدنيين، حزب الله جرب ذلك ولم ينفعه طوال عشرون عامل كاملة، حقيقة الأمر أن القوي يحاول دوماً أن يجرد الضعيف من الشيء الوحيد الذي يتفوق فيه هذا الضعيف وهو الناحية الأخلاقية، تهمة الإرهاب هي قدر لا مفر منه لأي حركة مقاومة أو تمرد، فما بالك لو كان عدو هذه الحركة له تأثير هائل على الإعلام العالمي ويتاجر ويستمر في المتاجرة بالاضطهاد الذي تعرض له على يد النازيين ويربط - بدون أي منطق - بين ما فعله النازيون به وبين ما يفعله شعب مستضعف تقطعت به السبل للدفاع عن نفسه.

4 - المقاومة الإسلامية هي مقاومة وطنية حقيقة، والصراع مع إسرائيل هو صراع سياسي وليس ديني، "الإرهاب" الفلسطيني في بدايته وحتى ثمانينات القرن الماضي كان علمانياً بشكل واضح وكانت مطالبه تنحصر في دولة علمانية يتساوى بها العرب واليهود فقط ولم ينفعه ذلك في تجنب صفة الإرهاب بالطبع، ربط الصراع مع إسرائيل بالصراع بين "الإيمان" و"الكفر" هو مصلحة إسرائيل المباشرة كي تبرر لنفسها أمام شعبها أولاً، وأمام الرأي العام العالمي ثانياً، ما تفعله من اضطهاد وظلم، وتصور نفسها كقلعة حامية لقيم العلمانية والحرية أمام جحافل الهمج الملتحين الذين يسعون لفرض رجم النساء وقطع الأيدي والأرجل على الكرة الأرضية وتدمير الحضارة كما يعرفها الغرب.

5 - المقاومة الإسلامية والسياسيون الإسلاميون الفلسطينيون - حالياً على الأقل - أنظف كفاً وأكثر نزاهة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية الذين انغمسوا في مستنقعات الفساد والمحسوبية والرشوة، وكدسوا الثروات الطائلة على حساب قضية شعبهم العادلة، وقد جاء هؤلاء القادة الإسلاميون نتيجة لإرادة شعبية حقيقية وبناء على نتائج انتخابات شهد الكل بنزاهتها، وبالتالي يتمتعون بشرعية لا جدال فيها من وجهة نظري. ليس هناك حالياً في العالم مهنة أخطر من مهنة قيادي في حركة حماس أو الجهاد الإسلامي، ومع ذلك لم أسمع أن أحدهم قد استغل مخاطرته بحياته من أجل شعبه وأرضه في جمع ثروة شخصية وبناء القصور والفيلات والتنقل بين الفنادق الفخمة لحضور مؤتمرات "النضال" لكي "يندد" من فوق منابرها بالعدوان و"يدين" تصرفاته ويطلب من "المجتمع الدولي" وقفه عند حده !!!!

6 - لا يمكن تجاهل قوة التيار الديني وشعبيته في المنطقة، ورغبة الأغلبية في حكومة دينية بالنسبة لي واضحة تماماً، وبالرغم من وضوح الفرق في ذهني بين الديمقراطية وديكتاتورية الأغلبية التي تدعو إليها الحركات الدينية، فالأمر ليس كذلك بالنسبة للغالبية الساحقة من الناس التي ترى بعينيها مرة بعد أخرى فوز الإسلاميين بانتخابات نزيهة ثم الالتفاف عليهم لحرمانهم من حقهم في تسلم السلطة من قبل حكام ديكتاتوريين وفاسدين (الجزائر، مصر وفلسطين كأمثلة). وبالنسبة لي ولغيري تبدو الحجة التي تستعملها الديكتاتوريات بأن الإسلاميون يريدون ديمقراطية لمرة واحدة فقط غاية في الهزال والسخف عندما يستخدمها أمثال هؤلاء.

ولكن، وكما يقول فيصل القاسم في برنامج صراع الديوك الشهير، دعنا نتكلم عن الجانب الآخر من الصورة:

1 - الحق والعدل ليسا من العوامل الأساسية في انتصار أي قضية، القوة هي الأساس، كون من حق الفلسطينيون أن يقاوموا بأي طريقة لا يعني أن هذه المقاومة حكيمة ويجب أن يقدر لها النجاح، التاريخ بطوله وعرضه مليء بالقضايا العادلة الخاسرة وبشعوب أبيدت أو هجرت أو استعبدت ظلماً وعدواناً ولم تفدها عدالة قضاياها بشيء.

2 - القوة لا تأتي من الشجاعة والبطولة والصمود والتصدي والتضحيات و"الشهادة" وما إلى ذلك، كل ما سبق لا يغني ولا يسمن عن جوع أمام الحضارة والعلم والتقدم والاقتصاد، لا يجب أن يخدع أحد نفسه، لو تحول كل أهل فلسطين بل وكل أهل العالم العربي والإسلامي إلى مفجرين انتحاريين فلن يفلح ذلك في إزالة دولة نووية مدججة بأحدث وأقوى أسلحة العالم من الوجود، ليس دولة تملك أسلحة نووية فقط، بل تملك أهم منها، تملك معهد التخنيون ومعهد وايزمان وعدد من أرقى جامعات العالم ومراكز أبحاثه، تملك اقتصاد متنوع وحديث وقوي. التصور أن "المرجلة" والعنتريات والشجاعة والخطب الحماسية والتلحف بالأكفان في مسيرات الغضب هو السبيل لمواجهتها هو الجنون عينه.

3 - النصر العسكري، حتى لو تم، ليس بديلاً عن النصر الحضاري، بل أكثر من ذلك، لا قيمة لأي نصر عسكري على الإطلاق في حالة الهزيمة الحضارية ولو كان هذا النصر في حجم تحرير فلسطين بأكملها، الاتحاد السوفييتي انتصر عسكرياً على ألمانيا واليابان وانهزم أمامهما حضارياً بشكل مذل وصل إلى درجة أن يهرب رياضيوه كلما سنحت لهم الفرصة بالسفر خارج أسوار سجن "الوطن الاشتراكي" ليلجأوا إلى الدول الغربية، أيضاً فيتنام انتصرت على أمريكا عسكرياً وانهزمت أمامها حضارياً ليهرب مواطنوها "المنتصرون" بالقوارب من جنة الشيوعية. الثورة الجزائرية "انتصرت" أيضاً وأخرجت الفرنسيين من الجزائر ليصطف "المنتصرون" طوابيراً على أبواب السفارة الفرنسية طلباً للهجرة إلى بلد العدو المهزوم. والأمثلة غيرها كثيرة.
الإسلاميون بنظرتهم الدوغمائية الطائفية التي تحكمها الرؤى الأسطورية الدينية التي تعبد الأسلاف وتنظر إلى الماضي لحل مشاكل الحاضر والمستقبل هم آخر من يستطيع تحقيق الانتصار الحضاري، بالإمكان رؤية الإسلاميون يحكمون في إيران وأفغانستان والصومال والسودان لمعرفة الحضارة التي تنتظرنا في حال فوزهم، بإمكاني تصور سيناريو ينتصر به الإسلاميون على إسرائيل (الإغراق العددي مثلاً أو إزعاج اليهود بحيث يقتنعون أن الحفاظ على دولتهم في محيط من العداء لا يساوي حجم الجهد المبذول لأجله)، لكني لا أستطيع تصور سيناريو يستطيع الإسلاميون فيه تحقيق نصراً حضارياً.
يا هل ترى، هل لو زالت إسرائيل بسحر ساحر غداً صباحاً ستنقلب أحوالناً رأساً على عقب ؟ هل ستختفي الأمية ؟ هل ستقل الطائفية والقبلية ؟ هل ستتحول جامعاتنا من معاهد تحفيظ ببغائية إلى مراكز بحث علمية ؟ هل سيجد أولادنا سكناً لائقاً ووظائفاً جيدة وعيشاً كريماً ؟ هل سيتوقف تدمير بيئتنا ؟ لو كان الأمر كذلك، لماذا لم يحصل ذلك في الدول العربية والإسلامية البعيدة عنها ؟ بالإمكان طبعاً إرجاع ذلك إلى المكائد التي يحيكها اليهود المتفرغون كلياً للنيل من "الأمة الإسلامية"، ليس عندي رد على منطق بهذا السخف إلا القول أنه لو كان اليهود فعلاً بهذه القوة بحيث يستطيعون التحكم بالعالم بهذه الطريقة فالأفضل لنا أن نعبدهم كشعب الله المختار !!!!!
لا أنسى خبر مقتل نزار ريان، القيادي في حركة حماس في أوائل أيام الهجوم الإسرائيلي على غزة، قتل هذا القيادي مع ثلاث من زوجاته وتسعة من أبناؤه الأربعة عشر في غارة إسرائيلية، هل سيقودنا إلى الانتصار الحضاري قادة لهم ثلاث زوجات وعشرات الأبناء ؟؟

4 - انتصار حماس أو الجهاد الإسلامي أو أي منظمة تتبنى فكر إسلامي كعقيدة على إسرائيل يعني بالضرورة حكمها لبلادي أولاً، وهذا الحكم يؤدي بالضرورة إلى تصفيتي جسدياً وفكرياً أولاً إما بالقتل أو بالتهجير أو بالإخراس !!، طبعا لا أقصد شخصي المتواضع بهذه الجملة، أقصد بذلك أي مفكر علماني حر لا يرى تقدم بلاده في الدروشة وقطع الأيدي والأرجل والجلد وحبس النساء في البيوت وتطويل اللحى وإرجاع قوانين أهل الذمة.
أعود هنا إلى الشعراوي، فالرجل فضل هزيمة بلاده "العلمانية" كونه رأى الكوارث التي ألحقتها العلمانية فيها من وجهة نظره طبعاً، الأفكار نفسها تدور في رأسي مع فارق كبير وجوهري، لا أحد في بلاد الشعراوي "العلمانية" كان يطالب بتصفية الشعراوي جسدياً أو نفيه خارجها، لا يوجد حد ردة علماني ولا أهل ذمة علمانيون ولم يطلب أحد إغلاق المساجد وقتل شيوخها. هل يا ترى أكون خائناً إذا تخوفت من انتصار المشروع الإسلامي في بلادي ؟ هل أكون خائناً إذا تمنيت هزيمة مشروع لا يخجل من التصريح علناً والكتابة في أدبياته عن ضرورة قتلي قبل أو بعد استتابتي حسب اعتدال الكاتب أو تطرفه ؟

5 - حماس - تعريفاً حسب موقعها على الإنترنت - هي: جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين، هي فرع من الشجرة التي أنجبت سيد قطب ومروان حديد وابراهيم اليوسف وغيرهم من الأبطال الميامين. هي حزب مسلم سني حصراً وطائفي حتى النخاع، هي حزب اسمه بحد ذاته طائفي !!
حماس ليست جهاداً ضد إسرائيل فقط، هي جهاد ضد الشيعة والعلويين والدروز والاسماعيليين وغيرهم من المرتدين الزنادقة لقتلهم أو أسلمتهم، وهي جهاد في سبيل تطبيق قوانين الذمة على المسيحيين الباقين في بلادهم، هي حركة كادت تدخل سوريا في حرب طائفية شاملة، هي حركة كانت تعارض النظام ليس لأنه فاسد أو استبدادي أو فاشل اقتصادياً، كانت تعارضه لأنه نظام "نصيري كافر" حرم "أهل السنة والجماعة" الذين هم أغلبية حسب قولهم من حكم بلادهم وتطبيق شرع الله فيها !!!!
كوني مسجلاً في السجلات المدنية كمسلم بالولادة بإمكاني التخفي والتقية والتظاهر بالإيمان والعيش تحت حكم الشريعة كما يعيش أمثالي ممن شائت لهم الأقدار الولادة في إيران أو السعودية، ولكن ماذا عن أبناء بلدي من الطوائف الأخرى ؟ هل أكون متشائماً إذا توقعت حرباً أهلية شاملة تدمر بلادي أو تقسمها في أحسن حال ؟ هل يجب أن أخسر سوريا كي أربح فلسطين ؟ هذا بفرض أن استرداد فلسطين ممكن.

هذه هي الأفكار التي تتصارع في رأسي، ما هو "الموقف الوطني السليم" الذي يجب أن أتخذه ؟ ما هو رأي العلماني في "مدحي" لحركات الإسلام السياسي وما رأي الإسلامي في "ذمي" لها ؟
لا أستطيع أن أقف موقف بعض الكتاب الذين يلومون الضحية الفلسطينية التي تلبست بالإسلام حالياً على الركلات الضعيفة التي تكيلها للجزار الإسرائيلي وهو يذبحها، ولا أستطيع أن أقف وأصفق لشعب يسعى لحتفه بظلفه ويغرق أكثر فأكثر في حلول أخروية وهمية عوضاً عن مواجهة تحديات الدنيا.
كم هو صعب وضعي، يا هل ترى أين يقف القارئ من ذلك ؟




9‏/10‏/2008

لعبة الأمم


لم أجد عنواناً لائقاً لهذا المقال أكثر من عنوان كتاب مايلز كوبلاند عن دور المخابرات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط في أواسط القرن العشرين، ولكن هذا المقال لا يتعرض لذلك، بل يتعرض لشخص ينتمي – رغما عن أنفه - لثلاث أمم في وقت واحد، هذا الشخص هو أنا.

أنا سوري ولدت بعد تسلم حزب البعث السلطة عام 1963، وبالتالي تم حقني من الصغر بالقومية العربية ذات الرسالة الخالدة في كل مكان: الشارع، المدرسة، التلفزيون، المكتبة .... باختصار في أي مكان إلا بيتي، حيث كانت عائلتي السورية القومية المتحمسة تربي أولادها على معرفة الأمة السورية وخصائصها الفريدة والهلال الخصيب ونجمته قبرص وضرورة استعادة مجد حضارتنا السورية الضاربة في أعماق التاريخ.

ثم امتد بي العمر إلى أن أضيفت أمة جديدة مؤخراً إلى القائمة هي الأمة الإسلامية التي أعطت العالم الحضارة والتي ما أن يعيد المسلمون التمسك بدينهم حتى ستتبوأ مكانها الطبيعي ليس كأمة بين الأمم المتقدمة مثل الأمتين السابقتين، بل كقائد ومخلص للبشرية جمعاء تحت رايات التوحيد الخفاقة.


أزمة الهوية هذه يعيشها كل سوري يرفض الاعتراف بحدود اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت الولايات العثمانية التي احتلتها انجلترا في الحرب العالمية الأولى، هذه الاتفاقية التي تعاملت مع المنطقة ككعكة تقسم بين المنتصرين دون أي اكتراث برغبات وتطلعات سكان المنطقة على الإطلاق.

أريد هنا أن أشارك القارئ السوري و"العربي" والإسلامي أفكاري حول هذه الأمم الوهمية، ثم أريد أن أقترح التركيز على أمة رابعة (وكأن الثلاثة لا تكفي)، الأمة التي أشعر بالانتماء إليها فعلاً.

أولاً – الأمة العربية: الأمة التي تمتد من موريتانيا غرباً إلى عربستان في إيران الحالية شرقاً، ومن الصومال جنوباً إلى كيليكية في تركيا الحالية شمالاً، دع جانباً جزر القمر التي لا أعرف موقعها على الخريطة إلا بالتقريب الشديد والتي لم تكن عربية في صغري !!!!!

هذه الأمة التي علموني أنها تشترك بلغة واحدة وتاريخ واحد وحضارة واحدة ومصير واحد وتطلعات واحدة، هذه الأمة التي مزقها الاستعمار الغاشم ووضع بين "أقطارها" الحدود المصطنعة كي يضعفها ويستغل ثرواتها ويجعلها سوقاً لتصريف منتجاته.

هذه الأمة التي تشكلت – حسب الإيديولوجيا البعثية - من "الهجرات العربية" المتتابعة التي خرجت من الجزيرة العربية، منهم "العرب السومريين" و"العرب الأشوريين" و"العرب الكلدانيين" و" العرب الفينيقيين" و"العرب الفراعنة" إلى آخر قائمة طويلة من العرب كونت في النهاية هذه الأمة المتماسكة التي نراها حالياً.

طبعاً لم تدخل هذه النظرية في التفاصيل التافهة مثل محاولة شرح لماذا كان البشر متركزين جميعاً في الجزيرة العربية بداية، لماذا تركوا الهلال الخصيب ووادي النيل فارغين واختاروا السكن في صحاري الجزيرة العربية الجرداء.

وفي حال لم تكن هذه المناطق خالية قبل "الهجرات العربية" ماذا حل بسكانها الأصليين؟، هل أبيدوا أو ذابوا في "الحضارة العربية"، هذه الحضارة التي لم توجد في أي يوم من الأيام في الجزيرة العربية، منشأ "الأمة" جمعاء.

وتناست النظرية أن اللغة العربية وهي الشيء المشترك الخاص الوحيد لهذه "الأمة" هي لهجة قريش، وأنها لم تكن موجودة قبل أن ينشرها الإسلام. وأن حضارة سورية الطبيعية ومصر ترجع إلى ألوف السنين قبل الإسلام واللغة العربية.

ولم تدخل أيضاً في شرح تفاصيل ثانوية مثل عدم وجود أي فترة من التاريخ سابقة أو لاحقة على الإمبراطورية الأموية التي دامت 89 عاماً فقط كانت غالبية – وليس كل - "أقطار" هذه الأمة متحدة في كيان سياسي واحد، ودعنا لا ننسى هنا أنه حتى هذه الإمبراطورية لم تكن عربية نقية، بل ضمت الأراضي الحالية لإيران وأفغانستان وباكستان وأجزاء من الهند.

ولم يتم أيضاً التطرق إلى أن هذه الإمبراطورية كانت مثلها مثل جميع الإمبراطوريات التي جمعت أجزاء كبيرة من "الوطن العربي" مثل الإمبراطورية الرومانية والعثمانية، كانت إمبراطورية فتح وإخضاع بالسيف والحديد والنار، وأن التمرد على السلطة المركزية لم ينقطع يوماً خلال فترة وجودها القصيرة حالما أحس أحد من الأقاليم بضعف السلطة المركزية وأنها تفككت على الفور تقريباً عند زوال السلطة المركزية القوية.

ولم تأخذ هذه النظرية في الحسبان أن هناك الكثير ممن لا تروق لهم فكرة العروبة من الأساس مثل الأكراد والسريان والآشوريين والأمازيغ وسكان جنوب السودان، الذي تحولهم العروبة إلى مواطنين من الدرجة الثانية في بلادهم بمصادرة ثقافتهم وتراثهم لحساب "التراث العربي".

القومية العربية كانت فكرة رائعة، تحمست لها بريطانيا وفرنسا كثيراً ودعمتها إلى النهاية لاستغلالها لتحطيم الإمبراطورية العثمانية التي كانت تستمد شرعيتها من الإسلام، وقد نجحت في ذلك أيما نجاح بدون شك. وبعد ذلك فقدتا اهتمامهما بها كأداة استنفذت الفائدة المرجوة منها. وقد تحمست لها لأقليات الدينية التي تعيش في سوريا كرعايا تحت حكم الإسلام للعروبة لتنتقل من ذمة الإسلام إلى المواطنة في دولة قومية لا ترتكز على الدين.

الوطن العربي في النهاية هو البلاد التي يوجد بها الإسلام واللغة العربية (التي هي بحد ذاتها ناتج من نواتج الإسلام) معاً، بدون وحدة جغرافية، أو وحدة مصالح أو تاريخ مشترك أو وعي مشترك أو رؤية مشتركة للمستقبل.

بالإمكان تحبير الصفحات في التنظير الإيديولوجي عن مكونات الأمة بلا نهاية بالطبع، التنظير عن مكونات الأمة وخصائصها في شعوب لم تتجاوز العشائرية والقبلية بعد، شعوب لا يزال فيها الحاكم إلهاً يعبد والانتماء الحقيقي للفرد فيها هو للقبيلة والعشيرة ثم الطائفة، ولكن في النهاية أثبتت هذه القومية خوائها بحيث انهارت بعد هزيمة الديكتاتوريات التي حملت لواءها وإيديولوجيتها أمام إسرائيل، وتبين أن الروابط "القوية والتاريخية والمصيرية" التي تجمع بين "أقطار" الأمة التي "جزأها الاستعمار البغيض" لم تفلح بعد أكثر مرور عشرات السنين من الوعي القومي في توحيد أي بلدين "عربيين" ما عدا اليمن السعيد الذي يحافظ على وحدته حتى الآن بالكاد وبالقوة وسط تمردات وثورات لم تنقطع عملياً من اللحظة الأولى للوحدة.

بل لم تفلح حتى في الحفاظ على وحدة الدول القائمة حالياً، فغالبية الدول الناطقة بالعربية تغلي في نزاعات طائفية وعرقية وعشائرية وقبلية ويحافظ على "المستقر" منها قمع أنظمتها فقط وليس أي قناعة أو وعي قومي لسكانها.

ثانياً – الأمة السورية: الأمة التي تضم أرضها كلا من الدول الحالية التالية: سوريا والعراق وفلسطين ولبنان والأردن والكويت وقبرص، بالإضافة إلى صحراء سيناء وكيليكية في جنوب تركيا وجزء من الصحراء السعودية وعربستان في غرب إيران.

يفترض أن أنطون سعادة اختار الحدود الطبيعية لبلاد الشام حدوداً لأمته السورية، جبال طوروس شمالاً وزاغروس شرقاً وحدود والصحراء جنوبا وحدود آسيا والبحر المتوسط غربا، أما قبرص فلعل قربها الجغرافي ساهم في جعلها نجمة الهلال السوري.

قد يبدو للوهلة الأولى أن الأمة السورية، كونها أقل مساحة وامتداداً بكثير من الأمة العربية، هي مشروع أكثر قابلية للتحقيق من الثانية، لكنها في الحقيقة لا تقل عنها خيالية.

لا أدري حقيقة من أين أتت لسعادة فكرة أن الحدود الجغرافية الطبيعية تترجم تلقائياً إلى حدود أمم، إذا قبلنا هذا الافتراض سنضطر إلى إعادة رسم خرائط العالم كلها، وذلك بالطبع بعد عدة مئات من السنين من الحروب اللازمة كي تقنع كل الدول الواقعة في منطقة جغرافية واحدة بالتوحد وتقنع بعد ذلك الدول الأخرى التي لها أراضي في مناطق جغرافية طبيعية تقع خارجها بالتخلي عن هذه المناطق لصالح "دولها الأصلية".

بإمكاني تخيل الدولة السورية الواحدة التي سأفرض جدلاً فقط أنها نجحت في توحيد سوريا وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والكويت، بإمكاني تخيلها وهي تطالب تركيا بالتخلي عن جنوبها وإيران بالتخلي عن غربها والسعودية عن شمالها ومصر عن صحراء سيناء، ثم تبعث المراسلات إلى القبارصة اليونان والأتراك تدعوهم فيها إلى التوحد معها على مبدأ أسلم تسلم !!!

ومن نافل القول أيضاً أن هذه الأصقاع لم تكن يوماً تحت حكم واحد مستقل، بل كانت دوماً أجزاء من إمبراطوريات وممالك متناحرة، وأنه لا شيء يجمع عملياً في الفكر وطريقة الحياة والأهداف بين مسيحيي لبنان وبدو الكويت ويونان قبرص وأكراد العراق وسنة سوريا وشيعة العراق إلخ...

بالنسبة لي شخصياً أفضل المشروع السوري عن المشروع العربي كونه يبتعد عن الدين الإسلامي كمكون أساسي للأمة، حيث أن العروبة هي ترجمة قومية للإسلام في الواقع، وكون القومية السورية تغرف من تاريخ حضاري عميق يتجاوز بكثير الغزوات والأشعار البدوية وقيم الصحراء القبلية التي حاولت العروبة تصويرها على أنها حضارتي وقيمي وتاريخي.

لكن هذا التفضيل العاطفي لا ينعكس على قناعة عقلية بإمكان تحقق مثل هذا المشروع، خاصة كونه يشترك مع المشروع العربي في فاشيته وعنصريته وتعصبه، بل ويتجاوزه في ذلك.

هو مشروع خيالي مثله مثل المشروع العربي تماماً، وفرقه الوحيد عنه هو أن الضباط المؤمنين به لم يقيض لهم اغتصاب السلطة مثل نظرائهم العروبيين واستخدام هذا المشروع مطية في سبيل الثراء والتربع بلا نهاية على كرسي الحكم، ولذلك يبقى لهذا المشروع بعض البريق الرومانسي في نفوس البعض كونه لم يتلوث بأوحال السلطة ولم يتجرع مذلة الهزائم التي مني بها العروبيون.

ثالثاً – الأمة الإسلامية: وهي بلا شك أكثر هذه الأمم غرابة، وهي تقوم على مبدأ بسيط جداً، هو أن الدين هو الهوية بكل بساطة، أي هي عملياً يتمركز مشروعها على إعادة عقارب الساعة 1400 سنة إلى الوراء إلى زمن غزوات الرسول وخلفاؤه المباشرين حيث كانت الدولة هي الدين، ثم بعد ذلك تجاهل كل ما حصل في الأربعة عشر قرناً اللاحقة !!!

حدود هذه الأمة غير واضحة المعالم حتى لمن يعتقد بها، فهي تمتد من أندونيسيا إلى البوسنة، ومن الصين إلى المغرب ومن نيجيريا إلى الشيشان، تتداخل بها عشرات الدول واللغات والألوان والأجناس والأعراق، ولا يوجد من يستطيع ضبطها على خريطة بعكس الأمتين السابقتين، فهل يجب يا ترى إعادة "فتح" الأندلس واليونان وبلغاريا ودول البلقان كونها كانت يوما تحت الحكم الإسلامي ؟ وهل تدخل فيها فرنسا حيث يعيش أكثر من ستة ملايين مسلم وحيث وصلت جيوش الإسلام إلى جنوبها يوما يا هل ترى؟

يتجاهل هذا الطرح الفوارق اللغوية والعرقية والثقافية والمصلحية والجغرافية والسياسية وكل شيء عملياً، ويتناسى أيضاً أن الإسلام هو مذاهب وشيع وطوائف يكفر بعضها البعض الآخر، ويتناسى وجود الأقليات غير المسلمة وأخيراً يتناسى هذا الطرح حقيقة بسيطة هي أنه بمجرد تفككك الدولة الأموية زالت عملياً الوحدة الإسلامية مرة وإلى الأبد وأن محاولة إحياءها هي بالضبط مثل محاولة إحياء مستحاثة.

الفكرة فيها من السخف ما يجعل مجرد الكتابة عنها أمراً محرجاً، ولكنها في عقول بعض المهووسين حقيقية لدرجة أن بعض الجزائريين مستعدين لتفجير أنفسهم في كشمير من أجلها !!! بل وبعض البريطانيين في أبناء بلدهم الذين يحملون جنسيته ويدينون بالولاء إلى أمة افتراضية موجودة في خيالهم فقط.

بالنسبة لي مناقشة الأمة الإسلامية بمعناها المتعارف عليه حالياً يماثل في سخفه محاولة مناقشة وجود الغول أو الإله أوزوريس بشكل جدي وإثبات عدم وجودهما !!

ولا يتبين كم هو سخيف تعبير "الأمة الإسلامية " إلا عند إنشاء أمم أخرى وهمية مثله: الأمة المسيحية والأمة البوذية والأمة الهندوسية مثلاً !!

ولكن التعبير يتردد باستمرار، وهناك كما أسلفت من ينظّر له ومن هو مستعد للتضحية بحياته لأجله ويمثلهم الآن التيار السلفي الوهابي الجهادي، وهم قلة نسبياً، ولكن هناك أغلبية تردده بشكل ببغائي دون أن تفكر لحظة في معناه ومدى واقعيته وتعتقد في وعيها الباطن أن الإسلام فعلاً هو أمة كما فرنسا أو أمريكا أمة !!

مع كل فاشيتهما وتعصبهما، تبدو الأمتان العربية والسورية جنتا الخلد بالمقارنة مع الأمة الإسلامية، فحل الأقليات "الكتابية" هو الجزية، وحل غيرها هو الترحيل أو القتل، وحل الشيعة الإبادة وحل أمثالي من العلمانيين معروف طبعاً وبالإمكان النظر للدول والمناطق التي تحكمها السلفية الإسلامية حالياً لمعرفة ما ينتظر أي شعب تسلمه الأقدار لهم.

أمام المشروع الإسلامي أنا عروبي أكثر من ساطع الحصري وقومي سوري أكثر من أنطون سعادة وشيوعي أكثر من لينين نفسه. فمع كل اعتراضاتي عليها، فعلى الأقل لا تدعو أي من هذه المشاريع إلى قتلي لأني لا أصلي ولا يدخل في مبادئها النظرية تصورات معينة عن طول لحيتي وقصة شعري !!!

الشيء المشترك بين الأمم الثلاث هو الدوغمائية أو الإيديولوجية، أي اعتماد تعريف كل منها على عقيدة غير قابلة للإثبات العلمي مثل الدين تماماً، ويكفيني لإثبات ذلك جمع ثلاثة أشخاص: بعثي وقومي سوري وإسلامي وتركهم يتناقشون حول مكونات الأمة، الدين أو اللغة أو السلالة أو الحدود الطبيعية أو غيرها أو أي مزيج مما سبق ثم انتظار أن يقنع أحد منهم الآخرين، ولا توجد ضرورة لعمل ذلك حقيقة فهذا "الحوار" يدور منذ عشرات السنين ونتيجته معروفة حالياً.

أنا شبه متأكد من أن معتنقي نظرية كل أمة من الأمم الثلاث يوافقني في أغلب انتقاداتي للاثنتين الباقيتين، ويستغرب من عدم وضوح ذلك لكل عاقل، ويستسهل بشكل كبير رؤية مكامن الضعف واللا منطق في تعريفهما، كما يستغرب المسيحي تصديق المسلم للناسخ والمنسوخ والإله الذي يغير رأيه مع تغير الظروف السياسية ويستغرب المسلم تصديق المسيحي للإله الذي يضحي بابنه الوحيد كي يفدي خطايا لم تحصل بعد !!

أهرقت أنهار من الحبر وقطعت آلاف الأشجار على الكتب التي تشرح لماذا بالضبط كل من هذه الأمم هي الأمة الصحيحة وكل ما عداها باطل، هل يذكركم هذا بشيء ؟ ألا تذكركم صعوبة مناقشة عروبي متحمس حول صحة حججه بصعوبة مناقشة مسيحي أو مسلم متحمس لدينه ؟

ولكن ما البديل ؟ من أنا وإلى من أنتمي وكيف تتشكل الأمم إذاً ؟ حقيقة أنني صعب الإرضاء فعلاً، قدموا لي ثلاثة أمم على طبق من ذهب ورفضتها جميعاً !!

كيف تتشكل الأمم إذا ؟ هذا هو السؤال، والجواب متنوع للغاية، هي مجموعة من العوامل منها الغزو العسكري ومنها التمدد الثقافي، ومنها المصالح الاقتصادية ومنها الوحدة الجغرافية ومنها الدين ومنها اللغة ومنها التطهير العرقي للأقوام الأخرى وغير ذلك، ويتفاوت مدى تأثير كل عامل أو مجموعة عوامل حسب المثال التاريخي المطروح.

يمكن لأي إيديولوجي أن يأتي بأمثلة لا حصر لها عن كل عامل أو مجموعة عوامل يعتقد أنها الأهم ويقويها على حساب البقية ثم يبني إيديولوجية متكاملة عليها والتنظير بعد ذلك بشكل رجعي مع الإتيان بأمثلة تاريخية ملائمة وإهمال الأمثلة الأخرى التي لا تتفق مع طروحاته.

والأمر برأيي يتعلق بخليط من كل هذا بالإضافة إلى عامل هام جداً هو الصدفة التاريخية المحضة، بإمكاني تصور أمماً أوروبية مختلفة تماماً عن الموجودة حالياً لو لم يهاجم هتلر الاتحاد السوفياتي وعقد صلحاً مع بريطانيا ولم يهزم، لو تابعنا ذلك المسار الخيالي للأمور أو أي مسار خيالي آخر مثل لو مات بيسمارك في طفولته أو لو لم يولد غاريبالدي أو لو ينتصر شمال أمريكا على جنوبها في الحرب الأهلية أو لم يولد النبي محمد أو أو أو، التاريخ تحركه صدف لا نهاية لها وهو فعلياً مسار معين من عدد لانهائي من المسارات المحتملة التي لا تقل احتمالاً ومنطقية عنه لكنها بكل ببساطة لم تحدث !!!!

برأيي أن السؤال المهم ليس هو العوامل التي تشكل الأمة، فلا يحسم هذا السؤال إلا التنظير الإيديولوجي الذي لا طائل من وراءه، السؤال المهم فعلاً في زمننا هو كيف تحافظ الأمم على تماسكها ؟

ما يجمع الأمم-الدول (nation-states) حالياً هو أحد أمرين:
1 – القناعة المشتركة بين الناس بانتمائهم لهذه الأمة (أمثلة: الأمة الأمريكية، الفرنسية، الألمانية، اليابانية وغيرها).
2 – القوة الغاشمة (أمثلة: العراق، تركيا، سوريا، يوغوسلافيا سابقاً، السودان، سابقاً وغيرها).

فإن تركنا الاحتمال الثاني كون الدول القائمة عليه غير مستقرة بشكل كبير وتنهار عادة عند زوال قبضة الحاكم الحديدية عنها، يظهر السؤال التالي وهو كيف يمكن أن نشكل هذه القناعة المشتركة ؟

وهنا أيضاً توجد طريقتان:
1 – التنظير الإيديولوجي: أو كتعبير مخفف، التثقيف ورفع الوعي القومي أو الوطني أو الديني، وهي طريقة يمكن أن تحقق بعض النجاح بلا شك وهي الطريقة المتبعة في خلق مؤمنين بالأمم الثلاث موضوع النقاش. لكن عيب هذه الطريقة القاتل هو ضعفها الشديد أمام الطريقة الثانية والأهم كثيراً: المصالح.

2 – المصالح الفعلية: أستطيع بكل ثقة أن أجزم أن أي قدر من التنظير الإيديولوجي (الإسلام ضمناً وأولاً) وأي كمية من البراهين والأبحاث العلمية والاجتماعية لن تكون كفيلة بإقناع الكويتي بالاتحاد مع العراق، والقبرصي والماروني اللبناني مع سوريا والإماراتي مع السعودية إلخ..، من يعتقد بإمكانية ذلك هو واهم كمن يحلم من يعتقد أنه بالإمكان إقناع إسرائيل بالمخاجلة أن ترجع فلسطين لأهلها.

يمكن في أحسن حالة أن يبيع الكويتي إلى العراقي كلاماً معسولاً حول "الأخوة العربية" و"التضامن العربي" وما إلى ذلك من تعابير جبر الخواطر ورفع العتب، هذا إذا أحس أنه ملزم بذلك أصلاً، فإن أصر العراقي فلن يعدم الكويتي من يجري له أبحاثاً علمية وتاريخية تثبت أن الكويت أمة وحضارة وهوية ولم تكن في يوم من الأيام جزءاً من العراق، أنا لا أمزح أو أبالغ، فقد رأيت بعيني أبحاث من هذا القبيل وإن كنت لم أحتفظ بها مع شديد الأسف لأشير إلى المصدر. ومثال الكويت والعراق يمكن تطبيقه على الكثير من الحالات الأخرى بتبديل الأسماء فقط.

أرجو ألا أكون أضعت القارئ في الكثير من التفاصيل التمهيدية، ولذلك سأرجع إلى نقطتي الأساسية:

الأمة الوحيدة الموجودة على أرض الواقع وأستطيع الانتماء لها فعلاً هي سوريا السياسية بحدودها الحالية، بالطبع ليست حدوداً طبيعية، فلم يكن يوجد فرق يذكر بين حوران السورية وشمال الأردن، ولا فرق بين دير الزور وغرب العراق ولا لطرطوس عن طرابلس وهكذا، الحدود الحالية ليست لها أي شرعية إلا شرعية الأمر الواقع بكل بساطة، الواقع الذي مر عليه تسعون عاماً حتى الآن، أي أكثر من عمر الإمبراطورية الأموية !!!

تسعون عاماً من الإدارة والحكم والأنظمة الاقتصادية والتعليم المختلف، وكل يوم يمر يزيد في الاختلاف أكثر فأكثر، لم تخلق هذه الأمة الطبيعة ولا اللغة ولا الدين، خلقها الواقع والصدفة التاريخية فحسب، وهي أكثر واقعية بكثير من الأمم الوهمية الإيديولوجية، فعلى الأقل يوجد لها حدود معترف بها وحكومة ومصالح حقيقية ونظام تعليم واحد والكثير الكثير مما يربطها ببعض.

ومع كل هذه الروابط الحقيقية المشتركة، فإن قسماً لا يستهان به من أفراد هذه الأمة الصغيرة مع الأسف لا يشعرون بالانتماء لها نهائياً، سواء من ناحية قومية أو من ناحية دينية، وقسم آخر كبير ولعله الأغلبية يقدم انتماءات العائلة والقبيلة والعشيرة والطائفة بمراحل على الانتماء الوطني، وقسم آخر أكبر يرى أن غيره من مكونات هذه الأمة هو دخيل عليها وأنه هو فقط من ينتمي إليها وهكذا.

ليست هناك ضرورة لكي آتي بأمثلة، فكل من يعيش في سوريا يعرف بالضبط عن من وماذا أتكلم، وهذه هي النقطة التي أريد أن أصل إليها:

من المضحك التكلم عن والدعوة إلى أمم إيديولوجية كبيرة يمكن أن تتحقق ويمكن ألا تتحقق بين شعب لم يصل أصلاً إلى مرحلة الوعي الوطني أولاً.

سوريا الحالية معرضة جدياً للتفكك مثل العراق عند أول تحدي جدي يواجهها، ما انهار عام 2003 ليس هو نظام صدام، ما انهار هو العراق نفسه حيث عادت الساعة فيه فعلياً إلى زمن العشيرة والقبيلة والطائفة وحكم رجال الدين وممالك المدن وأمراء الحرب. وبكل أسف فأن أوجه الشبه بين وضع سوريا ووضع العراق سابقاً أكثر من أوجه الاختلاف.

التكلم عن أي من الأمم الإيديولوجية يضعف ولا يقوي الانتماء الوطني للسوريين ويزرع بذور الفرقة بينهم، فإن تكلمت عن العروبة أقصيت الأكراد والشركس والأرمن، وإن تكلمت عن الإسلام أقصيت كل الطوائف الأخرى، لعل القومية السورية، مع تقليل جرعة الفاشية والعنصرية فيها هي أفضل الثلاثة في حال تحققت، لكن حتى لو كانت قابلة للتحقيق وكنا نريد تحقيقها فعلاً، فعلينا البدء أولاً في بناء وعي وطني محلي حتى لا نقع في سخافة من يريد أخذ شهادة جامعية ولكنه يريد حرق المراحل ولا يريد إضاعة وقته في الدراسة الإعدادية والثانوية أولاً.

سيقول العروبي والسوري القومي أيضاً بالطبع أنهم مع التوعية الوطنية داخل سوريا قبل الحديث عن المشاريع الكبرى، واختلافي معهم هو التالي: لنفرض جدلاً أننا حققنا الوحدة الوطنية الفعلية، وبنينا اقتصادا متطوراً ومؤسسات إلى آخره وأصبحت سوريا قبلة للاستثمارات وانتقلنا إلى مصاف الدول المتقدمة، وبقيت الأردن على فقرها بل وازدادت فقراً، ثم أبدت تركيا رغبتها في تقوية العلاقات معنا كما هي تريد تقوية العلاقات مع الاتحاد الأوروبي حالياً، وكونه يربطنا تاريخ مشترك طويل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك فكانت هناك رغبة تركية في الاتحاد مع سوريا، هل أترك ذلك وأقول أن إيديولوجيتي تقول أن تركيا أمة أخرى غير أمتي ؟ بينما أقبل طلب الأردن العربية الفقيرة كي تغرقني بعمالتها غير الماهرة وتسحب مواردي لتنمية وتطوير حالها ؟

هل هذا إغراق في الخيال ؟ ربما، ولكني أريد أن أسأل أي سوري، يا هل ترى يرفض فعلاً مثل هذا الاتحاد مهما كانت الظروف لصالح إيديولوجيته ؟ وإذا أجاب بأنه يرفضه عليه أن يسأل نفسه، لماذا يا هل ترى يرفض العرب الخليجيين إدخال اليمن في مجلسهم ؟

ما أريد أن أؤكد عليه أن المصالح أهم بكثير من الإيديولوجيات، وأن التنظير عن القومية يصبح هراء خاوياً عند أول امتحان حقيقي مع مصالح الناس وأنه من الأفضل تناسي الأراضي السليبة في تركيا وإيران والملك الضائع هنا وهناك والنبش في كتب التاريخ عن حدود سابقة لممالك اندثرت الآن والمطالبة بها، من الأفضل تناسي كل ذلك والتركيز على تثبيت ما هو موجود على أرض الواقع.

وعندما نصل إلى مرحلة من التقدم والرفاه تزيد عما هو موجود حولنا فسيأتي جيراننا من تلقاء أنفسهم وبدون أي جهد تنظيري من قبلنا ليطلبوا الاتحاد معنا، بل أكثر من ذلك، سيظهر بينهم منظرون يؤكدون على قوة العلاقة بيننا وبينهم وجذورها الضاربة في أعماق التاريخ!!

علينا فقط النظر لمحاولات تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي لمعرفة ما أعني، ليس فقط سيطلبون الاتحاد معنا، بل سيمكننا فرض شروطنا والتبطر عليهم أيضاً كما يفعل الأوروبيون مع تركيا الآن.

يبقى في النهاية الاعتراضات:
أولاً - الاعتراض الشهير: لن يسمح لنا الاستعمار ولن تتركنا إسرائيل في حالنا وستبقى القوى الخفية التي تحكم العالم تحيك المؤامرات علينا ما لم نتوحد أولاً، سمعتها مائة مرة، هذه الاعتراضات نابعة من عصاب متأصل في الإنسان السوري نظراً للحشو الإيديولوجي الطويل الذي تعرض له، هذا العصاب يهيئ له أن العالم والغرب خصوصاً بطوله وعرضه متفرغ تماماً ولا هم ولا عمل له إلا حياكة المؤامرات كي يبقينا متخلفين خوفا من تسيدنا العالم في حال تطورنا، والتصور الأكثر قرباً للتفكير الجمعي السوري هو أن إسرائيل بالذات لن تسمح بقيام قوة بجانبها وستفشل أي محاولة تبذل في هذا المجال.

أما عن المؤامرات العالمية فهي أتفه من أن يرد عليها، على من يتكلم بهذا المنطق أن يفسر لماذا سمح الغرب الشرير للصين وكوريا وماليزيا وسنغافورا وغيرها كثيراً بالانتقال من العالم الثالث إلى مصاف الدول المتقدمة ثم ضاقت عينه فقط عندما يصل الدور على سوريا.

أما عن إسرائيل فهي الشماعة التي نعلق عليها فشلنا والحجة الأفضل لتقصيرنا، تنبع حجة إسرائيل من افتراض أن الإسرائيليين هم صنف خاص من البشر لا تنطبق عليهم قوانين الطبيعة، وبالتالي لا يهنأ لهم عيش إلا في الدخول في حروب بلا نهاية لها، وأنه لا مصلحة لهم في الحياة في منطقة آمنة ومستقرة وثرية اقتصادياً واجتماعياً وأنهم يفضلون الحياة في قلعة محصنة تسبح في بحر من الكراهية وقضاء أعمارهم في الجيش والاحتياط.

ثانياً – اعتراض أننا لا يمكن أن نتقدم وحدنا، فنحن أمة صغيرة والعالم الآن تتنازعه الحيتان الكبار، موافق مع بعض التحفظات، فبعض الأمم الصغيرة أبلى بلاء حسناً، ولكن لا بأس ففي الاتحاد قوة، ولكني أقول فقط: دعوا الإيديولوجيا والتنظير وانظروا للمصالح فهي أساس كل شيء.

أريد في النهاية أن أقول أنه لو حصلت معجزة ما وتوحدت الأمة العربية أو السورية فلن أحزن، بل سأكون أول المصفقين والمؤيدين، وأنه ليس عندي أي مانع في حصول تقارب بين الدول السورية أو العربية على الإطلاق بل أشجعه بشدة، كل ما أدعو إليه هو ترك أوهام الماضي وأحلام العصافير والتركيز على ما لدينا فعلا، عندما نبني بيتنا الصغير الذي ورثناه دون أن يكون لنا يد في ذلك نستطيع البدء منه لبناء بيت كبير نفاخر فيه الأمم في مستقبل الأيام.




25‏/3‏/2008

نصيحة من مسلم ملحد إلى مسيحيي الإنترنت


مسلم ملحد ؟؟؟ لا، ليس هذا خطأ طباعياً في العنوان، أنا ملحد شاءت الصدفة أن ألد لعائلة مسلمة في بلد غالبية سكانه من المسلمين، وبناء على ذلك تم تسجيلي في السجلات المدنية على أني مسلم بدون أن يكون لي يد في ذلك، مثل أي طفل آخر يلد في بلادنا.

أنا ملحد من ناحية الإيمان، لكني مسلم من ناحية الانتماء، أهلي مسلمون والكثير من أصدقائي مسلمون وغالبية سكان بلدي الأول سوريا مسلمون، أتكلم لغتهم وأفرح لفرحهم وأتألم لألمهم، أهنئهم بولاداتهم وأفراحههم وأعزيهم بوفياتهم وأتراحهم، باختصار هم - مع جميع السوريين من الطوائف الأخرى – أهلي، والإنسان لا ينكر أصله وأهله.

لا أحد يكره الإسلام السياسي كما أكرهه، ولا يوجد من يعارض تطبيق الشريعة كما أعارض وليس هناك من ينفر من السلفية ومظاهرها كما أنفر، ولا أحد يستطيع المزاودة علي في العلمانية والحرية وضرورتهما.


- فلئن اشتكى المسيحي من رغبة المتأسلمين بفرض الجزية عليه أقول له أنت محظوظ، هم لا يرغبون إلا بفضل رأسي عن جسدي.
- وإن تأفف من إجياره على تحجيب زوجته أقول له اضحك في سرك، هم لا يرضون بأقل من تفريقي عن زوجتي.
- وإن تبرم من عدم السماح له بإشهار شعائر دينه أحسده في سري، على الأقل هم لن يجبرونه على أداء شعائر دينهم.
ذكرت هذه المقدمة فقط لأبين للمسيحيين جميعاً من أنا وكيف أفكر، أنا ملحد لا أؤمن بأي غيبيات أو آلهة من أي نوع، ولكني أؤيد حق أي انسان أن يعتقد ما يشاء طالما لم يفرض اعتقاده على الآخرين، وبناء على هذا الموقف لن أتردد في دعم أي مطلب مسيحي مشروع دعما مطلقاً:

- فإن طالب بإالغاء تحديد دين رئيس الجمهورية في الدستور فأنا معه.
- وإن طالب بعدم صرف أموال الضرائب التي يساهم فيها على وزارة الأوقاف التي لا يستفيد منها فهذا حق لا شك فيه.
- وإن طالب بعدم فرض قوانين الإرث الإسلامية عليه فهذا مشروع.
- وإن طالب بوقت على إذاعات الدولة السورية يخصص لنشر الدين المسيحي مناسب لما يقدم للدين الإسلامي فأنا معه طالما أن ضرائبه تمول هذا التلفزيون (مع أني أؤيد إلغاء الدعوة لأي دين على إذاعة الدولة).
وهكذا .....

ولكني سأخصص هذا المقال لظاهرة غريبة وخطيرة بدأت تتنامى مؤخراً خصوصاً على الإنترنت التي تقدم منبراً حراً بشكل مطلق بإمكان كل إنسان أن يقول فيه ما يريد، هذه الظاهرة هي تحول البعض (وأرجو بشدة أن يكون هذا البعض قليلاً) من المسيحيين الشرقيين إلى مهاجمة الإسلام كعقيدة والنبي محمد كشخصية وإطلاق كافة الشتائم والنعوت القبيحة بحقهما وحق كل من يتبعهما مما يخطر ولا يخطر على البال.

وتحول بعضهم إلى "باحثين تاريخيين"، ينقبون الكتب الإسلامية الصفراء بحثاً عن كل ما ينتقص من محمد وصحابته كي يشبعوا أي مسلم يقرأ لهم أو يسمعهم هزؤاً وسخرية من معتقداته وكتبه ودينه.

بل وذهب الأمر بالسخف إلى أبعد من ذلك، إذ بدأ بعض العباقرة منهم في الحديث عن "الاحتلال الإسلامي - العربي" لمصر أولا ومؤخراً لسوريا أيضاً، وكأن مسلمو مصر وسوريا غزاة جاؤوا من الجزيرة العربية وليسوا من السكان الأصليين الذين قرر أحد أسلافهم اعتناق الإسلام في مرحلة ما ربما تخلصاً من الجزية أو طاعة لشيخ قبيلته أو إكراها بحد السيف، مثله تماماً مثل سلف سابق قرر قراراً مشابهاً ولنفس الأسباب قبله ببضع مئات من السنين بالتحول من الوثنية إلى المسيحية .......

هل تظن عزيزي القارئ أن هذا أسوأ ما يقال ؟ كلا للأسف، سمعتهم أكثر من مرة يردون على كل مسلم معتدل يقول لهم أن الإسلام يحترم بقية الأديان السماوية – مع تحفظي الشخصي على كلمة السماوية - وبأنه ضد الجزية والتمييز وأنه مع مبدأ المواطنة، يردون عليه بأنه جاهل لا يعرف دينه ولو عرفه لأصبح إرهابياً مجرماً مثل بقية "الهمج الغزاة" ...........

ونظراً لكوني في النهاية واحداً من هؤلاء "الغزاة الهمج" انتماءً، أريد في هذ المقال الرد على طروحات هؤلاء "الباحثين العلميين" بطريقة منهجية، وسأقسم ردي إلى قسمين، رد على منطقية الطروحات و"الأبحاث التاريخية" ورد من الناحية العملية على جدوى هذه الطروحات و"الأبحاث" من الأساس.

أولاً: الرد من الناحية المنطقية:
1 – إنكار المسيحي على المسلم استعمال نفس الآليات "العقلية" و"المنطقية" التي جعلته يتصور أن المسيحية هي دين متسامح:
يصول الجهبذ المتمسح – على وزن متأسلم إن صح التعبير - ويجول في النصوص القرآنية وكتب الأحاديث والسيرة مقتطعاً منها الاقتباسات المطولة التي تتحدث عن الحرب والدماء، ورضاع الكبير والشجاع الأقرع والتبرك ببول الرسول قافزاً بثقة من ذلك إلى الاستنتاج باستحالة إصلاح الإسلام تماماً نظراً لأنه لا يمكن أن يؤمن إنسان بعصمة هذه النصوص ويكون بشراً سوياً في وقت واحد، أليس هذا واضحاً لكل ذي عين ؟
لكن ..
هل قرأ المسيحي العهد القديم يا ترى ؟ ألا يعرف أن ما فيه من الدماء والقتل والخرافات لا يقل، إن لم يكن يزيد عما في القرآن من ذلك ؟ ألا يعرف أن كل ما يعيبه في الإسلام موجود في كتابه المقدس وزيادة ؟
سأسأل أسئلة لا جواب عليها إلا بنعم أو لا:
- هل العهد القديم جزء من الكتاب المقدس نعم أم لا ؟
- هل إله العهد القديم المتوحش هو إله آخر غير يسوع الحمل الوديع نعم أم لا ؟
- أم هل تغيرت شخصيته عندما نضج نعم أم لا ؟
- أم هل اكتشف أن طريقة العهد القديم في التعامل مع الناس فاشلة ولذلك غير من مقاربته عل الطريقة الجديدة تنجح ؟
وحتى إذا فرضت بسحر ساحر اني أستطيع تجاهل العهد القديم والتركيز على العهد الجديد الإيجابي، لماذا أتمسك بالوصايا العشر ؟ والمزامير ؟ ونشيد الإنشاد ؟ وغيرها ؟ أليسوا جميعاً من الكتاب القديم "المنسوخ" ؟ وإذا تجاهلتها أيضاً هل أبقى مسيحي أم أن لدي ديانة خاصة لا يشاركني بها أحد ؟
أطلب من كل من "باحث" من هذا النوع ان ينظر إلى المرآة مطولاً ويسأل نفسه:
"يا هل ترى ما هي الآلية العقلية والمنطقية التي اعتمدتها في تجاهل كل ما هو مخزي في الكتاب المقدس وتصديق كل ما هو جميل" ؟؟؟
وبعد أن يجيب يسأل نفسه ثانية:
"ألا يمكن أن يستعمل المسلم نفس الآلية يا ترى" ؟؟

2 – تسهيل الرد على المسلمين بالهجوم المعاكس:
سمعتها وقرأتها عشرات المرات، أسهل طريقة للدفاع هي الهجوم، فعوضاً من أن يدافع المسلم عن نصوصه الخرافية والمتناقضة والدموية ويعيد النظر بصحتها يلجأ إلى الطريق الأسهل: مهاجمة مقابلات هذه النصوص في الكتاب المقدس ثم الضحك على تناقض المسيحي الذي يعيب على المسلم ما ابتلي به هو شخصياً.
وكلام المسلم سليم، والطريف أن كلام المسيحي سليم أيضاً، فكلا الكتابين (القرآن والكتاب المقدس) حافلين بما لذ وطاب من الخرافة والتناقض والدموية مما يجعل من السهولة بمكان لأي شخص أن يسرح ويمرح بهما كما يشاء بدون جهد يذكر، ولكن العمى الإيديولوجي الذي يضرب بصيرة المتدين فيحجب عنه تناقضات وخرافات دينه بينما يترك له "العقل" و"التفكير" ليتمعن في الأديان الأخرى بتجرد يجعله يتصور أنه أتى بما لم يأت به الأولون حين يقرأ عن دين الآخرين ويكتشف عيوبه ويتعجب من "صغر عقولهم" عندما يصدقون تلك الخرافات المضحكة !!

3 – تناسي أن الإسلام قطع شوطاً بعيداً في الإصلاح فعلاً قبل الردة الحضارية بعد هزيمة المشروع العربي:
على كل من يتصور استحالة إصلاح الإسلام أن يخرج إلى السوق ويشتري فيديو عن حفلة لأم كلثوم أو عبد الحليم حافظ، ويبحث فيهما عن أي أثر للحجاب بين الجمهور، وإذا وجده فليخبرني، وهنا لدينا تفسيرين:
أ – أن كل حضور تلك الحفلات كانوا من المسيحيين "المتحضرين"، ولكن مهلاً، فعبد الحليم وأم كلثوم هما نفسهما من "الهمج" ....
ب – أن الأمور لم تكن وقتها كما هي الآن.
كل من تجاوز الأربعين عاماً رأي بعينه التحول التدريجي نحو التشدد والخبل الديني الإسلامي المتدروش، ويعرف بالضبط ان إسلام الخمسينات والستينات بل والسبعينات وأوائل الثمانينات كان مدجناً، وديعاً وحضارياً مثل المسيحية الآن بالضبط.
هل كان يجرؤ وقتها شيخ على التكفير بسبب وبلا سبب ؟ والإفتاء ببول البعير وأفضلية النقاب على الحجاب ؟
لماذا لم يكن وقتها يوجد من يتكلم بالجزية والجهاد والتمترس ودار الإسلام والحرب ؟ كيف سمحت تعاليم الإسلام "الدموية المتحجرة" للنساء أن يتحررن وقتها من الحجاب ؟ كيف يا ترى ؟
كيف سمح المسلمون المتعصبون الهمج لفارس الخوري ونايف حواتمة وجورج حبش بتبوء أعلى المناصب ؟
أين كانت المصارف الإسلامية والطب النبوي والملابس الإسلامية والجوامع المكتظة ومشايخ البزنس وزواج المسفار والمسيار ؟
وهذا كله يقودني إلى الفقرة التالية:

4 - تناسي كم استغرق إصلاح المسيحية:
يعترف الجهبذ المتمسح بوقوع أخطاء في التاريخ المسيحي – وهذه نقطة لصالحه -، فلم أسمع أحدا منهم يدافع عن محاكم التفتيش وحرق العلماء، لكنه يرميها ببساطة على البشر الذين لم يفهموا الكتاب المقدس بشكل سليم وينزه المسيحية عنها، حيث أنها نفضت عنها تلك التفاسير والتصرفات الخاطئة وأظهرت وجهها الوضاء الذي عم العالم فانتشرت تحمل الخلاص للبشر المعذبين التائقين للنور على أنغام القيثارة وزقزقة العصافير ......
ويتصور لسذاجته الشديدة أن القسس والرهبان والأحبار ناموا ذات يوم بعد صلاة روحية صادقة واستفاقوا في الصباح التالي وفتحوا كتبهم المقدسة وأمعنوا فيها النظر فاستنتجوا أن أسلافهم كانوا على خطأ بتعصبهم الماضي وتمسكهم بالسلطة وأن "المسيحية الصحيحة" لا تقول بحرق المهرطقين والتنكيل بالساحرات وإجبار الناس على تغيير دينها وتجييش الحملات الصليبية وتحريم الكتب العلمية.
ولكن كل من يعرف أي شيء عن تاريخ أوروبا والغرب يعرف أن معركة العقل والتنوير مع المسيحية امتدت مئات السنوات ولم تنته عملياً بشكل نهائي إلا في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين (أرجو ان يكون نهائي حقيقة، فالردة الحضارية الإسلامية يمكن أن تتكرر مثيلتها في الغرب مع المسيحية وعندها اقرأ على البشرية السلام).
معركة امتدت مئات السنوات سالت الدماء والدموع فيها أنهاراً، حاربت المسيحية فيها بالأنياب والنواجذ دفاعاً عن الخرافة والجهل والتعصب ولم تترك فيها خندقاً إلا بعد أن تقطعت بها السبل، وعندما تمت هزيمتها والإجهاز عليها كقوة سياسية بشكل نهائي على يد العقل والعلمانية والتنوير اكتشفت فجأة أنها ديانة متسامحة علمانية وأن الصراع كان سوء تفاهم بسيط لم يكن له داع أصلاً ........

وطريق الإصلاح الوعر هذا لم يكن دون نكسات وردات وكر وفر وحقب يقوى فيها التنوير والعقل وأخرى ترتد بها الخرافة والجهل إلى الواجهة، كما يحصل الآن مع الإسلام بالضبط، ومن يتصور أن التاريخ توقف في نهايات القرن لعشرين وبدايات الواحد والعشرين وأن حالة الإسلام الحالية هي قدر لا فكاك منه عليه فقط أن يقرأ الاقتنباس التالي لفولتير ويتصور نفسه مكانه وفي وقته يخضع لاضهاد رجال الدين:
“Christianity is the most ridiculous, the most absurd, and bloody religion that has ever infected the world”
"المسيحية هي أتفه وأسخف وأكثر دين دموي ابتلي به العالم على الإطلاق"

ولا يزال الوحش المسيحي الجريح الذي يلعق جراحه الآن ويلملم قواه الآن بعد الضربات التي أثخنته، لا يزال يطل بوجهه المخيف - المغطى بالمساحيق التجميلية - يحارب العلم والعقل حيث استطاع، فمن نشر خرافات الخلق والتصميم الذكي ومحاربة علم التطور، إلى الوقوف في وجه الأبحاث العلمية على الخلايا الجذعية إلى محاربة حق الإجهاض وحق إنهاء الحياة اختيارياً وغيرها.
لا يترك فرصة تفوته ينتقم بها من العقل إلا وانتهزها، لكنه حتى الآن مروض بالعلمانية، لنأمل ان يظل الأمر كذلك.

إصلاح المسيحية كان بإضعافها، من قبل العلمانية في الغرب ومن قبل الإسلام في الشرق، وإصلاح الإسلام سيتبع المسار نفسه، هكذا بكل بساطة.
مضى الآن على المشروع الإصلاحي الإسلامي حوالي 150 عاماً "فقط"، آه كم كنت أتمنى لو كانت كافية كي نتعلم، آه كم كنت أتمنى ألا نعيد نفس طريق الدم والدموع المسيحي، أه كم أتمنى الآن لو يمتد بي العمر لأرى زخم المد الإصلاحي العلماني يعود من جديد، لكني واثق من عودته فالتاريخ لم ولن ينته ويوم القيامة لن يأت ابداً.
باختصار: أروني شيوخاً لا سلطة لهم أريكم إسلاماً "حضارياً" مثل المسيحية وحبة مسك.

5 - المحاكمة التاريخية للدينين تميل لصالح الإسلام لا المسيحية. مسيحيو الشرق أنفسهم شاهد على ذلك.
من أكثر الأمر إثارة للغيظ بالنسبة لي الكلام الببغائي عن العلماء "المسلمين" مثل ابن سينا والرازي وغيرهما الذي تبارى فقهاء عصرهم في تكفيرهم ويستعلمهم دجالو وكذابو اليوم في إثبات عظمة الإسلام عبرالحضارة التي بناها !!!!!!

نفس المنطق المعوج المنافق يستخدمه الكهنة المتمسحين اليوم في تجيير تسامح العلمانية – التي حاربوها حتى الرمق الأخير في وقتها - وقبولها للآخر المختلف، تجيير هذا التسامح بكل صفاقة إلى الديانة المسيحية!!!!، ينسى هؤلاء المنافقون أن أوروربا الغربية كان عدد المسلمين فيها يساوي الصفر عملياً قبل أواسط القرن العشرين !! ينسى هؤلاء الكذابون (ليسوا جميعهم كذابون حقيقة بل يوجد قسم منهم جهلة، مثل المسلمين الذين يتغنون باليوتوبيا الإسلامية الوهمية) أن مسيحيو اسبانيا المتسامحين قتلوا وهجروا كل من هو غير كاثوليكي من الأندلس.

وجود مسيحيي الشرق بحد ذاته هو أنصع شهادة للإسلام على المسيحية بكل بساطة بغض النظر عن نصوص أي كتاب مقدس، لا أقول هذا مثل بسطاء وجهلة المسلمين الذين يتصورون أن حياة مسيحيي الشرق كانت لبناً وعسلاً تحت حكم الإسلام العادل، بكل تأكيد لا، كانو يخضعون للجزية والتمييز والإجحاف والاضطهاد وتقلبات مزاج الحكام واستعلاء الأغلبية عليهم، نعم ولكنهم ظلوا موجودين بعكس مسلمي أوروبا الذين أبيدوا وهجروا بالكامل. بل كان الشرق الإسلامي "الهمجي" ملاذاً لليهود المضطهدين في أوروبا المسيحية المتسامحة !!!!!
عندما يأتي متمسح اليوم ويقارن بكل صفاقة مساجد أوروبا التي تتكاثر كالفطر مع كنائس الشرق التي تتعرض للحصار فهو لا يقارن بين المسيحية والإسلام، بل يقارن بين العلمانية والإسلام وشتان بين المسيحية والعلمانية.
تريد مقارنة المسيحية مع الإسلام يا شاطر ؟ اذهب إلى صربيا في التسعينات وأخبرني عن حرية بناء المساجد هناك عند سلوبودان ميلوسيفيتش وراتكو ملاديتش ورادوفان كارادزيتش، أكثر من مرة رأيت صور الأخير يقبل الصليب بخشوع ...........

6 - أين الخد الأيسر ؟
كنت أتصور – ولعلي مخطئاً – أن يسوع القدوس تكلم عن حب الأعداء ومباركة اللاعنين، تكلم عن إدارة الخد الأيسر والسير ميلين عوضاً عن الميل ؟ غريب، أين هذا من المتمسح الشتام المقذع ؟
ألم يبارك المسيحيون ويغفرون لمن رماهم للأسود وسامهم سوء العذاب ؟
ألم تنتشر الديانة المسيحية عندما رأى الناس عظمة المسيحيين الأخلاقية فاتبعوهم ؟؟ (هكذا يتصور بسطائهم، كما يتصور بسطاء المسلمين أن الإسلام انتشر بالدعوة والموعظة الحسنة !!!)
أم أن كل هذا كلام فارغ وتفاهة وترهات يرددونها كالببغاءات في الكنائس ثم يرمونها وراء ظهورهم وهم يشحذون ألسنتهم وينقبون في قواميس اللغة العربية عن أكثر الألفاظ حطاً وتحقيراً للمسلم المسكين الذين يريدون له الخير ويرغبون في تخليص روحه المعذبة من الجحيم بتسليمها ليسوع ؟
غريب فعلاً.


ثانياً: الرد من الناحية العملية:
بعد أن خصصت البنود السابقة لبيان الثغرات المنهجية في الخطاب المتمسح، أريد الآن مناقشة ما هو أهم بكثير، الكوارث التي ستترتب عملياً على الاستمرار فيه:

1 – خطأ الانجرار إلى لعبة خاسرة - وإن ربحت - يحدد قواعدها المتأسلم.
دعني أعطي تشبيه لإيصال الفكرة، أنت شخص عادي تمشي وحدك مع وزوجتك الجميلة في حي غريب لا تعرف فيه أحداً، رأيت عصابة من عشرات الشبان المتسكعين الأوباش تقترب منكما وتلقي التعليقات الجارحة وترمقكما بنظرات شهوانية، ماذا تفعل ؟ هل تشتمهم وتتحداهم أم هل تحاول الخروج بأقصى سرعة من الحي والابتعاد عنهم بأقل قدر ممكن من الخسائر ؟
هل وصلت الفكرة ؟ أحياناً لا يكون الخيار بين الجيد والسيء، في الكثير من مواقف الحياة يكون الخيار هو بين السيء والأسوأ !!
أنا أدين بشكل مطلق وبلا تحفظ كل متأسلم طائفي حقود يهاجم العقيدة المسيحية ومسيحيي الشرق، خصوصاً أنه يمارس هذا السلوك المنحط المخجل على طائفة صغيرة من أبناء وطنه لا تملك حرية الرد عليه نظراً لتحيز الأغلبية والدولة ضدها. واستعراض العضلات على من لا يستطيع الرد هو أول صفات الجبان.
ولكن هل يكون جواب المسيحي من نوع العمل ؟ هل يصفع أحد هؤلاء الشبان الأوباش كما في المثال أو يشتم أمه وأخته ويرضي غروره الذكوري ويخاطر بمقتله واغتصاب زوجته ؟ أم لعله من الأفضل أن يذهب إلى مختار الحي ووجهائه ويحاول إثارة نخوتهم علهم يلجمون هؤلاء الرعاع ويوقفونهم عند حدهم ؟ أي يذهب إلى حكومته وعقلاء شعبه ويطالبهم بحمايته وتطبيق العلمانية الصحيحة ؟
اخوتي وأبناء وطني وأهلي المسيحيين، إذ تمسحتم ورددتم على المتأسلم الطائفي بطريقته تكونون قد وقعتم في فخ أعده لكم بعناية شديدة، أنتم تلعبون في ملعبه وبين أرضه وجمهوره وترقصون على أنغامه وتنجرون إلى معركة بسلاح اختاره هو لكم وأنتم الخاسرون فيها حتماً وإن تصورتم أنكم ربحتم و"فشيتم خلقكم" بشتمهم كما يشتمونكم.
ألا تكررون أخطاء الفلسطينيين عندما تجرهم الاستفزازات الإسرائيلية إلى الرد العسكري العاطفي بينما هم لا يمكنهم تحمل تبعات هذا الرد ولا يملكون أسلحة ووسائل يواجهون بها الجبروت الإسرائيلي ؟
إذا فجر فلسطيني نفسه في مطعم من شدة القهر وقتل شخص أو اثنين ترد اسرائيل بقصف غزة بالطائرات وحصارها وتجويعها وترويعها وقتل مائة مقابلهم وتحويل حياة البقية إلى جحيم بأكثر مما هي جحيم فعلاً.
وإذا شتم مسيحي محمد والإسلام يرد غوغاء ورعاع المسلمين بمهاجمة الكنائس وحرقها وافتعال الفتن الطائفية.
مرة ثانية هل وصلت الفكرة ؟

2 - حرية الكلام مقدسة لكن ماذا عن حكمة الكلام ؟
وماذا عن الحرية ؟ هه ؟ ألا تنادي أيها الملحد المنافق بالحرية وتطبل وتزمر لها دوماً وتتباكى على فقدها ؟
لماذا تريد الحجر على حرية المسيحيين في الرد ؟ أم أنك مسلم سلفي متعصب تتخفى وراء الإلحاد ؟
ألا تنكر علينا ما تفعله أنت بالضبط من انتقاد الدين ؟
سمعت هذه الردود شخصياً من أكثر من متمسح حاولت أو أوصل إليهم كلامياً ما أطرحه في هذه المقالة،
لا يا قوم، لست سلفياً ولا أختفي وراء شيء، وأزيدكم سروراً بأني لا أرتاح أيضاً للمراهقات الفكرية الإلحادية التي يتصور فيها البعض أن التحرر من الدين لا يكتمل إلا بالشتم والإقذاع.
ولكن هناك فرق جوهري وهي أن نقدنا نحن للدين (وأقصد بنحن الملحدين من أصل إسلامي)، بل وحتى شتم مراهقينا الفكريين (مثل وفاء سلطان) لا يحمل صبغة طائفية ولا يتحمل تبعاته إلا نحن أنفسنا، ليس لنا كنائس لتحرق وأهلنا مسلمون ولن يهجروا ويضيق عليهم ويمكن فقط اتهام أشخاصنا دون أهلنا بالعمالة للموساد وال CIA ومجلس الكنائس العالمي والماسونية إلى آخر قائمة التفاهات التي يرميها المتأسلمون علينا.
لا أريد الحجر على حريتكم في انتقاد الإسلام إلا كما أريد الحجر على حرية ابني إذا أراد انتقاد الحكومة في بلد ديكتاتوري بالوقوف في ساحة عامة وشتم الرئيس علناً أمام الناس، هو حر، أليس كذلك ؟ نعم حر ولكنه انتحاري، وكذلك أنتم.
باختصار نحن منهم وفيهم في النهاية وهذا ما يقودني إلى النقطة التالية:

3 - لا يمكن أن يصلح المسيحيون حال الإسلام كما لا يمكن أن يصلح المسلمون حال المسيحية.
هذا البند هو الامتداد العملي للفقرة السابقة التي يبنت فيها سهولة الرد الإسلامي بالهجوم المعاكس.
يولد النقد الخارجي لأي انسان فوراً رد فعل دفاعي تلقائي غير عقلاني حتى لو كان هذا النقد صحيحاً، لنفرض أن جارك يقول أن ابنك لص يسرق وإفسادك له هو سبب تصرفاته، ماذا سيكون رد فعلك حتى لو كانت لديك علامات استفهام وغير راضٍ عن تصرفات ابنك ؟ حتى لو برهن جارك على ما يقول، بأمانة، هل ستحبه؟
ولكن لو أتت زوجتك أو أخيك وقالا لك ذلك، ألا تسمع منهما أكثر ؟ أليسا في موقع أفضل لتقديم النصح ؟ موقع شبهة التحيز فيه أقل بكثير؟ موقع لا يشك فيه متلقي النقد برغبة الآخر في التشفي بل يعتقد أنه فعلاً يرغب في إصلاح الحال ؟
يجب أن يعرف المسيحي أنه في هذا الموضع بالضبط، هو الجار وخارج العائلة، والإنسان في النهاية ليس عقلاً فقط، بل هو عقل وعاطفة وكما يجب أن تتحلى بأقصى أنواع الحذر عند انتقاد ابن أو زوجة جارك (إذا كان تهمك علاقتك بجارك طبعا، والمسيحيون الشرقيون يهمهم قطعاً علاقتهم بالمسلمين)، يجب عليك كمسيحي توخي نفس الحذر بل وأكثر عند تناولك للإسلام.

لاحظوا بالمناسبة أن مسيحيي الغرب لا ينطبق عليهم ذلك، فالإنجيليين الأمريكيين يسرحون ويمرحون في النصوص القرآنية والأحاديث وقصص مفاخذة عائشة واغتصابها بلا خوف ولا وجل، ولكن مسيحيي أمريكا لا يهمهم إصلاح حال المسلمين أو بلاد الشرق إطلاقاً، هم يسعون للسخرية من المسلمين وبيان تخلفهم وهمجيتهم فقط، ولا يضيرهم في سبيل تلك المتعة الرخيصة أن يضحى برقاب مسيحيي الشرق. هم الجار القوي الذي لا تهمه علاقته بجاره وتسمح له قوته بقول ما يشاء عنه وعن عائلته.

أنتم - وأهلكم لو كنتم مهاجرين - من سيعيش بين المسلمين، وأنتم من يلزمه حالياً حسن نية المسلمين، ولكنكم لستم مع الأسف في موقع يمكنكم فيه انتقاد الإسلام، اتركوا ذلك لمصلحيه.

ستقولون أنهم مقصرون ولا يفعلون الكفاية ؟ صحيح صحيح صحيح، وأنا أعتذر باسمي وباسم كل علماني مسلم يوافقني في الرأي عن تصرفات طائفيي ورعاع المسلمين بحق معتنقي كل الأديان الأخرى وليس المسيحية فقط، لكننا نعيش في زمن سيء مع الأسف فالمسلم السني يقتل المسلم الشيعي وبالعكس فما بالك بمعتنقي الأديان الأخرى ؟

في النهاية أريد أن أختم مقالي ببعض الأفكار والنصائح أرجو أن يفكر كل مسيحي سوري أولا وعربي ثانياً بها، أفكار يزعم صاحبها أنه تحرر من إيديولوجيا الإسلام بحيث يستطيع الوقوف على الحياد والنظر إلى الجانبين ورؤية طرفي القضية.

أفكار يخاف عليكم صاحبها كما تخافون على أنفسكم، ليس لأني ملاك من السماء وأحبكم قبل نفسي، لا، بل لأني كعلماني وملحد أقلية، وأنتم كمسيحيين أقلية، وما يضير أي أقلية أخرى يضيرني، وكلما نقص تنوع المجتمع وقل عدد الأقليات كلما زادت فاشيته وتعصبه وانغلاقه على نفسه.

دعوني أقول لكم أنه كما المسلم يحتاج للعلمانية كي يعيش في الغرب أنتم بحاجة للعلمانية كي تعيشون في الشرق، هو يستطيع الاستغناء عن العلمانية في الشرق، أنتم لا تستطيعون، احصروا نضالكم ومطالبكم فيها ولا تدخلوا معارك جانبية الربح فيها هو بحد ذاته خسارة.

لا تقلدوا انجيليي الولايات المتحدة وبعض مسيحيي المهجر الآمنين وراء البحار، هم سيتاجرون بكم ثم لن ينفعوكم عندما تقع الواقعة بل سيذرفون عليكم دموع التماسيح ويتركونكم لمصيركم، هم يستخدمونكم كقميص عثمان للتباكي ولبيان وحشية العدو الإسلامي الوهمي الذي يريدون خلقه ليحل محل العدو الشيوعي كي يستمروا في تجييش الجيوش وصناعة الأسلحة، هم لديهم من القوة ما يسمح لهم بذلك، أنتم لا.

لا تتبنوا وتقبلوا وترددوا كالببغاءات الخطاب الإسلامي السلفي أن الإسلام هو دين ودولة، هذا الخطاب أولاً غير صحيح وثانياً يدعو إلى اليأس المطلق وثالثاً كان القساوسة يرددونه في أوروبا عن المسيحية وقد تبين خطأه هناك وسيتيبن خطأه هنا. مقتلكم في هذا الخطاب، حاربوه بكل قواكم عوضاً عن تأكيده بمناسبة وغير مناسبة. إذا كان هذا الخطاب صحيحاً فالأجدر بكم أن تحزموا حقائبكم إلى المهجر من الآن وأنا وكل علماني مسلم سنسبقكم.

أنتم ضعفاء وستظلون ضعفاء إلى أن يصبح في بلادنا دستور علماني صارم يحمي الجميع كما في الغرب، والضعيف عليه التمسك بالأرضية الأخلاقية العليا فهي أثمن ما يملك وهي من يجلب له تعاطف كل منصف، لا تدعوا رعاعكم وأرذالكم يسلبونكم إياها.

ابتعدوا عن انتقاد ما لا يمسكم في الإسلام، إذا اضطهد المسلم امرأته فهذه مشكلة امرأته ومشكلته وليست مشكلتكم، وإذا تزوج المسلم أربعة أو عشرة فهذا لا يمس نساؤكم، وإذا تزوج النبي محمد زوجة ابنه بالتبني فهذا ليس من اختصاصكم طالما لا أحد يلاحق زوجات أبناءكم.
إذا أردتم أن تناقشوا فناقشوا الجزية، ناقشوا الردة، ناقشوا حقوق الولاية لغير المسلم، ناقشوا إجبار غير المسلمة على التحجب، ناقشوا أنظمة بناء كنائسكم واتركوا إصلاح البيت الداخلي لأهله.

إياكم ثم إياكم من التعميم واستعمال كلمات مثل "العقل المسلم" و"النفسية الإسلامية" و"التخلف الإسلامي"، لا يوجد شيء اسمه عقل مسلم ونفسية إسلامية ، يوجد مليار مسلم كل واحد منهم فرد له عقله ونفسيته، استعمال مثل هذه التعابير يفقدكم أي نوع من أنواع التعاطف من أي مسلم مهما كان علمانياً ومتحرراً أو حتى ملحداً مثلي.

لن تنجحوا في إقناع المسلمين المقتنعين بترك دينهم بهذه الطريقة (أو بأي طريقة حقيقة)، الغشاوة التي يضعها الدين على عقولكم فقط هي من يهيء لكم إمكانية ذلك نظراً لاعتقادكم أن دينكم منطقي ودينهم ليس كذلك، حتى لو نجحتم مع أفراد قلائل فلن يقدموا أو يؤخروا.

هدفكم هو اجتذاب المسلم المعتدل لا تنفيره، مهمتكم هي زيادة عدد المسلمين المتعاطفين مع قضاياكم وهم كثر وللأسف كانوا أكثر، مهمتكم هي التركيز على الآيات الإيجابية في القرآن التي تدعو للتسامح وقبول الآخر، لا تذكير المسلم بالناسخ والمنسوخ إذا كان قد نسيهما ولفت نظره إلى آيات السيف إذا كان لا يعرفها.

أافهم رد فعلكم العاطفي، أفهم الألم الذي يدعوكم إلى الرد على الطائفي المسلم بطريقته وتجريعه نفس الشراب المر الذي يذيقككم إياه، لكني لا أستطيع تبريره،
لعل الإيجابي الوحيد في خطابكم هو فتح ذهن المتأسلم إلى أن من يطرق الباب ويبدأ في انتقاد عقائد الغير عليه سماع الجواب وتحمل نتائج انتقاد الناس لعقائده، لكني أخاف عليكم من حرب طائفية غير متكافئة يخسر بها الكل، الوطن والمسلم والمسيحي، لكنكم ستكونون الخاسر الأكبر.